واقع مرّ في غزة.. اسمه نكبة 23

قد أصبح جسمك رياضيًا، فقدنا بعض الوزن، اتبعنا الحمية الغذائية، مع عدة جمل أخرى كنا نتبادلها مع أصدقائنا عند لقائنا معهم شهرين أو ثلاثة بعد بدء الحرب على غزة. حدث نزوحي الثالث في أول ديسمبر بعدما لوّح الإحتلال ببدء العدوان البري على منطقة خان يونس. كنت مع أسرتي وبعض أقاربي بالقرب من مستشفى ناصر في خان يونس في نزوحنا الثاني، ولكن كان من الواضح ان العدوان البري سيصل جميع أجزاء خان يونس ما عدا المواصي، أو هكذا قيل. رفح كانت مكتظة بالسكان. المدينة الصغيرة كانت مأوى لما يقارب المليون شخص، وازدادت اكتظاظًا مع قدوم عشرات، بل مئات الآلاف من خان يونس. بعض النازحين هم سكان غزة أو شمال غزة بالأصل، وربما ينزحون مثلي، ينزحون للمرة الثالثة. ثلاثة أماكن يلتقي فيها الأصدقاء مصادفة. في سوق رفح الرئيسية في وسط البلد بين دواري العودة والنجمة وهي ملتقى من نزح إلى شرق ووسط رفح، وشارع النص وهو شارع فيه محلات تجارية في غرب رفح وهو ملتقى النازحين لغرب وشمال رفح. هذان المكانان كانا مهرب الرجال والشباب من واقع مرير وفرصة للسير قليلاً والتظاهر بالبحث عما يمكن شراؤه لسد الحاجة للطعام، للشراب، أو حتى الملبس. المحلات شبه فارغة، والخضروات تباع بأسعار خيالية، والمستلزمات البسيطة التي لا يجب أن يخلو منها بيت، أصبحت صعبة المنال. هذه الأسواق أصبحت رحلة ما بعد العصر. 

كنا نلتقي بالأصدقاء، بعضهم لم نره فترة ثلاثة أشهر مضت، فنلحظ فقدانهم للكثير من أوزانهم. كان ذلك شيئا صارخاً لا يمكن تجاهله. فكانت الكلمات تخرج لتواسينا وتواسي أجسادنا مما حدث لها. من كان يتوقع أن سكان قطاع غزة سيعانون من نقص الغذاء، بل كنا نعتبر أنفسنا من المحظوظين. أخبار المجاعة في مدينة غزة وشمال القطاع كانت شاخصة. فقدنا الكثير من الوزن، وبالتأكيد بدأت تظهر التجاعيد على وجوهنا. كنا ننظر إلى بعضنا فنرى أنفسنا. نرى كم كبرنا في العمر، ربما كبرنا عشر سنوات، بل أكثر. في نفس الوقت كانت سيداتنا يأخذن قسطا من الراحة، فجميع أعمال المطبخ تتم على حطب أو على ورق. أما الملابس ولكل فرد في الأسرة قطعة أو قطعتين. إذا ما اتسخت إحداها فتوجب تنظيفها فورا من خلال الغسيل اليدوي. 

سيداتنا وفتياتنا لم يسلمن أيضا من تلك الحمية القاسية. لم يسلمن من أشعة الشمس. تلونت وجوههن لتصبح انعكاسا صارخا لهذه الحرب اللاإنسانية. ربما عانينا رجالًا ونساءً من نقص الغذاء، لكن التأثير الأكبر كان على الأطفال، فالعديد من الأطفال فقدوا أوزانهم عوضا عن تأخر نموهم. وأصبح الناس عرضة لانتشار الأوبئة والأمراض، فنحن لم نعان فقط من نقص الغذاء، وإنما أيضا من عدم وجود ماء الشرب النظيف والطبخ. عانينا من اكتظاظ الناس في مدارس الإيواء وخيام النزوح. وكانت التقارير التي تتحدث عن انتشار الأمراض التنفسية وأمراض الجهاز الهضمي مخيفة جداَ. وتبعها الحديث عن انتشار مرض الكبد الوبائي بين الأطفال خصوصا. كنا نستمع لهذه التقارير في المكان الثالث الذي كنا نلتقي فيه. في مقر عمليات الوكالة الذي أصبح ملتقى للمؤسسات المحلية والدولية، ومن خلاله يتم مشاركة التقارير والأخبار، بحث آليات وسبل التدخل، والتنسيق للعمل. نسمع السؤال المتداول، الذي يطرح أحياناً على استحياء: ما أخبار الصحة النفسية؟ أو يقول البعض مازحاً كلنا بحاجة لخدمات الصحة النفسية. قد تكون الجملة الثانية انعكاساً حقيقياً لواقع يشعر به الجميع. 

صاحب الحرب شعور الجميع بالرعب، الخوف، والقلق. مئات الشهداء كانوا يقتلون كل يوم، مربعات سكنية تدمر بالكامل على رؤوس ساكنيها، أصوات القصف تسمع يوميًا في كل أنحاء القطاع. شعور مستمر بالرعب والخوف من الأحداث الصادمة، يصاحبه القلق المستمر بسبب عدم وجود المكان الآمن. يستخدم الناس مصطلح الملاجئ عندما يتحدثون عن المدارس التي لجأوا إليها، ولكن هذه المدارس لا توفر الحد الأدنى من الشعور بالأمان، بل تم قصفها في بعض الأوقات، وفي أوقات أخرى تم الدخول إليها وتفتيش من فيها. 

هذا الرعب والخوف تحول لدى البعض إلى شكاوى وآلام جسدية، تحول لدى آخرين إلى مشاكل واضطرابات في النوم، وسبب لدى الأطفال كوابيس ومنامات ليلية، وفي بعض الأحيان يستيقظ الأطفال وقد بللوا فراشهم وملابسهم، ليقضوا يومهم بين الشعور بالخجل لتبولهم في فراشهم، أو تأنيب الضمير لزيادة الأعباء على أمهاتهم. أما الناجون من القصف المباشر، ومن خرج من تحت الأنقاض، أو من أصيب فقد دخل إلى رحلة صدق أو لا تصدق. بين إنكار ما حدث، وألم الفقدان. بين البحث عمن هم تحت الركام، أو البحث عن ضمادة طبية أو تدخل جراحي. بين اضطراب الصدمة الحاد، أو الاكتئاب الشديد. 

بين تعاضد المجتمع، أو الشعور بالشفقة. تمضي الأيام، وتتوالى الأحداث، وتستمر هذه الأجساد المنهكة في تحمل ما لا يستطيع تحمله بشر، ويتحدث الناس عن صمود أهل غزة وصبرهم، لكن يجب ألا ننسى أن هذا الصمود له ثمن باهظ. ليس فقط فقدان الأحبة، وفقدان الممتلكات، لكن أيضا على حساب الأجساد المنهكة، والسلامة النفسية. ويبقى سؤالان يسألهما أهل غزة: الأول إلى أين نذهب؟ فبين الفينة والفينة، تخرج أوامر النزوح لتتجدد المعاناة، ويتجدد الفقدان، وقبل كل شيء، أين هو المكان الآمن! وصلت آلة الحرب إلى رفح، ومعها نزح أكثر من مليون شخص إلى خان يونس والمنطقة الوسطى. نزحوا ليعيشوا في خان يونس بين الركام، وبعدها بأيام قليلة، أصبحت الأماكن الثلاثة في خبر كان. أما سؤال الناس الثاني فهو: إلى متى؟ هذا السؤال الذي يطرح خلفه جبلاً من علامات الإستفهام!

تحياتي إلى كل من يعمل في تقديم خدمات الصحة النفسية لهذا المجتمع المكلوم. تحياتي لزملائي وزميلاتي في البرنامج، الذين ما زالوا يقدمون كل ما بوسعهم لتخفيف الآثار النفسية لهذا العنوان، ولرسم بسمة على شفاه طفل. تحياتي لهم، وما زلنا في أول الطريق، فبالتأكيد لا يمكننا الحديث عن الأوضاع النفسية بشكل شمولي قبل أن تنتهي الحرب، وهناك الكثير من الجروح التي لن تلتئم، وسنضيف إلى ذكريات نكبتنا واقعا نعيشه، اسمه نكبة 23.


الصورة: للمصّور بلال خالد.

د. ياسر أبو جامع

مدير عام برنامج غزة للصحة النفسية.

رأيك يهمنا