مرثية جولانية من أجل بدايات جديدة!
ماذا يحصل حين يصطدم جسمان مختلفا القوّة والتركيبة؟ حين يتهشّم أحدهما ويكتسب الآخر القوّة والكتلة؟ ماذا يحصل للجسيمات التي تلتصق بالجسم النامي الجديد؟ قد ينزاح مركزها داخليًّا وتتحرّك في مدار الكتلة الجاذبة للعثور على محور جديد لدورانها. تتقلّص في البدء، ثم تتوازن، من خلال إنماء أجزاء جديدة. تتشبث وتتّصل بعالمهما الخارجيّ الجديد من أجل البقاء في حركة.
بعد كثير من الإحباط والتأمّل خلال العام الأول من جائحة كورونا والتي تصادف فيها العمل على مشروع توثيق ذاكرة المقاومة ضد الاحتلال، توصّلتُ إلى هذه الاستعارة كوسيلة للبدء بمناطحة وضعنا المعقد:
في العام 1967، فقدنا وطننا ومحيطنا الاجتماعي الآمن، لكنّنا نجونا من آلة الحرب الإسرائيليّة ولم نهجَّر! اصطدمنا بكتلة قوية، منطق حركتها التوسع الاستعماري عبر إنتاج مفهوم "الأرض الفارغة". وإذ لم يعنِ هذا المفهوم إبادتنا جسديًّا أو تطهيرنا عرقيًّا بشكل مطلق، فقد هدفت عقيدة "الأرض الفارغة" إلى تجريدنا من حسّنا القديم بالتموقع في الزمان والمكان، من ذاكرتنا وجغرافيتنا. أرادت إعادة تشكيل حسّنا الداخليّ بالانتماء ونقل جذري لمحور دوراننا الذاتي. ضربت قشرة نواتنا الخارجيّة فتزعزع مركزها. لم يكن ذلك مجرد اصطدام بل تلته صدمات مدروسة، تهدف إلى توليد نشأة جديدة لأصلانيٍّ طيّع، ذلك الذي يقبل بنصيبه ويقبّل يد السيد، له حضور في المكان بدون تاريخ متصل.
تدفّقت من المركز الاستعماريّ الاستيطاني الموارد المادّيّة والعنف الرمزيّ من أجل تغذية هذا المشروع. نما لحم جديد في الحيّز المتخلخل ما بين القشرة القديمة للخليّة ونواتها المنحسرة داخليًّا. ولكن، كما في الفيزياء، لكلّ صدمة سلسة من ردود الفعل، وإن كان ذلك بفواصل زمنيّة. وقعت سلسلة من الاحتكاكات السياسية في العقد الأول من الاحتلال، فَهِمَ من خلالها الآباءُ نوايا المحتلّ العميقة وجدّيتها. ولكنهم لم يشعروا بقوّة الصدمة الشديدة إلا مطلع الثمانينات حين أقرّ الاحتلال قانون ضم الجولان وبدأ بفرض المواطنة الإسرائيلية على الأهالي.
طالب الأهالي بإبطال قانون الجولان. في 14 شباط/فبراير 1982، أعلنوا إضرابًا عامًا مفتوحًا، استمرّ حتى أشهر الصّيف. دعم المجتمع الدوليّ موقفهم واستجاب مؤيّدًا اعتراض سوريا في الأمم المتّحدة، لكنّ كلّ ذلك كان مجرد حبر على ورق. في الواقع، لم يكن هناك أي رادع ملموس للإرادة الإسرائيلية، سوى إرادة الأهالي. في هذا الجزء من العالم، كانت الإرادة السياسيّة الإسرائيليّة هي القوّة المطلقة، مقابل مجتمع صغير من بضع قرى يبلغ عدد أهاليها عشرة آلاف نسمة فحسب (من أصل ما يقارب 150 ألفًا عام 1967، بحسب معطيات المرصد - المركز العربي لحقوق الإنسان في الجولان). مهمّة كانت عصيبة وبدت مستحيلة. كيف لهم أن يصدّوا تبعات تشريع دولة أكبر منهم بكثير؟ كان عليهم أن يطلقوا العنان لطاقات جديدة، أن يتحرّكوا أسرع ممّا اعتادوا، من أجل أن يحتفظوا بمحور دورانهم الخاص. كان عليهم أن يخلقوا روتينات جديدة تعيد بناء عالمهم الاجتماعيّ على نحو خلاّق، في مواجهة القوى الجاذبة والاختراقيّة للمنظومة الصادمة. كان عليهم أن يعيدوا بناء هويتهم وحسهم السياسي بالزمان والمكان، ملتحمين من جديد بعالمهم الداخلي المنيع من المشاعر الخاصة المتوارثة والمتجددة.
ومثلما أن الدولة تقوم بوصفها قوة تشريع، كذلك فإن الأهالي – بوصفهم ذاتًا او جسدًا سياسيًا فاعلًا -يشكّلون قوة تشريع عرفيٍّ مضاد. في هذا التشريع المضاد ثمة قوانين أخلاقيّة صارمة ترسم حدود الأفعال المجازة والممنوعة للأفراد، تحمّلهم مسؤولية ارتكابهم لها، ولكنّها تفتح أيضا عوالم بناء الشخصية الفردية، إذ يتوقف نجاح العرف المضاد، كما القانون، على عمله كمولّد لذاتيات الفاعلين وانبثاق تجارب هوية جديدة. ومع نشأة العرف الجولاني المضاد ضُغطت إلى الأسفل عادات وذاتيات قديمة ونشأت مكانها ذاتيات جديدة. رافق هذا التحول تبدّلٌ في الحظوظ وتنافس على المراكز والقيم والتأثير الاجتماعي بين الروحانيين والجسمانيين، أبناء العائلات الكبيرة وأبناء العائلات الصغيرة، الرجال والنساء، الخ. بمعنى آخر، بات العرف المضاد شرطًا عامًا ألمّ بالجميع وأعاد صياغة معنى العالم الاجتماعي الجولانيّ بتحولاته وتبدلاته الداخلية، مساهمًا في إطلاق العنان لهذه التحولات.
بات تطوير الذات، سواء على مستوى الأفراد أو الجماعات الفرعية، وفي مختلف مجالات الحياة، من التعليم إلى الزراعة، من العمل اليدويّ إلى الإنتاج الثقافيّ العالي، يستمدّ زخمًا وقيمة من خلال تمثيلات الهوية الجمعية أو الشخصيّة السياسيّة الجولانية الجديدة. سواء في زراعة أشجار التفّاح وتنميتها والافتخار بها، في الدراسة في المدارس الإسرائيليّة الإجباريّة أو الحصول على تدريب نظاميّ في الفنون والعلوم في روسيا أو دمشق، في العمل لحماية الحياة الدينيّة أو فضّها من أجل أشكال حياة علمانيّة، أصبحت الشخصيّة السياسيّة الجولانيّة ذخراً ومصدر قوة وزخم. لقد باتت مصدر قيمة أخلاقية عليا، تضفي المعنى والشرعية على نشاطات جديدة لم تكن متخيلة، وبالتالي على التشكلات الجديدة للذوات حتى في هجينيتها. لقد استمدّ الناس من حقل الهوية إحساسًا حقيقيًّا بكينونة مجتمعية مستقلة وصحّيّة رغم تنوعها الإيديولوجي الشديد. لقد أضفى حقل الهوية، المتولد كحقل مضاد للحقل الاستعماري، قيمة رمزية خاصة جدًا بالمكان وبأهله، قيمة انتقلت إلى مختلف مجالات الحياة وأضفت عليها حيوية مبهرة وملهمة للجولانيين أنفسهم وللمتضامنين معهم، خاصة من النشطاء الفلسطينيين بكافة تياراتهم.
لكن، هل يمكن أن تكون هذه هي نهاية القصّة؟ إن هذا النوع من الحراك لا يوقف الصدمة وتداعيتها.
إنّ الحسّ بمشترك أخلاقيّ مؤسس كان محكومًا عليه بالضعف مع مرور الوقت نظرًا لانفصام الواقع المادي عن حقل الهوية بفعل عملية الاستعمار المتصاعدة والمتشعّبة، مخلِّفًا مرارة وخيبة أمل متناميتين.
بسبب الأزمة العالميّة لـ كوفيد-19، أمضيت جلّ عام 2020 في مجدل شمس أعمل على التفكير والكتابة حول الموضوع. كانت هذه أوّل سنة أقضيها بالكامل في الجولان بعد ثلاثة عقود من البعد الذي تخللته زيارات قصيرة موسميّة، وكانت كاشفة وصادمة.
لقد جعلني اختبار الحياة اليومية أواجه الإدراك أنّنا منذ سنوات عديدة بتنا مشغولين بتفكيك الثقافة السياسيّة التي بنيناها في ثمانينات القرن العشرين لبنة لبنة. لقد كان حسُّنا بأنّنا نستمدّ القيمة الأخلاقيّة من مصدرٍ لا ينضب – الهوية المتماسكة – يواصل التآكل عامًا بعد عام. ونشأ مكانه حسٌّ بتفكك المشترك الأخلاقيّ. ما لا ينضب بالأخذ منه، تلك القيمة السحرية التي تكبر كلما أخذت منها، تحوّلت إلى هدف للخصخصة المعنوية، للاقتطاع والاستحواذ الأناني والتنافس السلبي (ربما دخلنا عالم الحداثة وتبخّرت سذاجتنا!) كلّ منا لا يزال يشعر بأنّه مؤهّل بقوّة لقيمة أن يكون جولانيًّا، غير أنّ في الجوّ شعورًا قويًا بوجود مجتمع مختلّ وظيفيًّا، شعورًا بانتفاء روح التعاون وانعدام الثقة، بالمنافسة المسمومة لتصفية نهائية لرأسمال جمعي أصيل كان قد بُني في مرحلة ماضية ولم يعد مناسبًا للحاضر.
ما كان يومًا سلطة شرعية بيد الزعماء الدينيّين، بات اليوم مشكوكًا به كنزوات أنانيّة ومصالح ذاتيّة. أولئك الذين شيّدوا يومًا ثقافة الهويّة الوطنيّة الجديدة، ومثّلوها بشخوصهم، انقسموا إلى معسكرات متخاصمة ومتعادية. وكان ذلك قبل وقت طويل من تصادمهم الأخلاقيّ التامّ والمؤثّر حول الثورة السوريّة منذ 2011. في الحقل الثقافيّ، هناك جوٌّ سلبيّ يثير العجب. لكنّ الأمر الأكثر إثارة للقلق هو الشعور بالعجز عن بناء مؤسّسات محلّيّة مستقلّة تُنمّي الهويّة والقواسم المعنوية المشتركة من جديد. جيل الشباب مُقصىً. باتت الفضيلة في كسب المال والاستهلاك، المُفرغ من المواجهة السياسية، مما يجسّد العنف الرمزي العميق المتدفّق من المركز الاستعماريّ-الاستيطانيّ. في فيزياء النجاة عند الاصطدام، يبدو أنّ المركز الداخليّ باتت تنافسه مراكز جديدة تنمي ذاتيات شتّى في الجسد المكشوف. بات الهامش أوسع، مكاناً لبروز نقاط ارتكاز جديدة متنافسة ومتنافرة. في أيّ مكان تقف في جولان اليوم، ترى عوالم صغرى هجينة أو غريبة، كلّ منها يدور في فلك خاص. لا يمكنك أن تستبين رأسك وسط التناقضات والمفارقات المتنامية. تستغرب إن كان هناك يومًا ما جسدٌ واحدٌ متجانسٌ يدور بانسجام حول محور واحد.
بتنا حائرين وساخطين. ما زلنا نتلقى الصدمة بعد الصدمة منذ الاحتلال (وما قبله). إلاّ أنّنا أذهلنا أنفسنا حين استجمعنا قوانا في اللحظة الأخيرة قبل بضعة أعوام لمناهضة مشروع الانتخابات البلدية التي فرضتها محكمة الاحتلال العليا، وبعده مشروع التوربينات الهوائية لتوليد الكهرباء الذي أخذت امتيازه إحدى الشركات الإسرائيلية الكبيرة. جاء المشروع الأول لتصفية إرثنا ورأسمالنا السياسي الوطني. أما المشروع الثاني، فيمثّل نزوع رأس المال الاستيطاني للاستحواذ الشامل، بما في ذلك طاقة الرياح "الخضراء"، ليجعلها مقصلةً لمشهدنا وخضرائنا ومتنفسنا الأخير. ونحن نعرف، حق المعرفة، أنّ هذين المشروعين أتيا من خارجٍ بات داخلنا. حاز الأول على نقطة انطلاق سهلة لينقضّ علينا بسبب تفكيكنا للحقل الوطني الذي انتجناه (ربما لأننا متأثرون جبريًا بحقول أقوى منّا أو لا). أما الثاني فينقضّ علينا ليس بأساليب التراكم البدائيّ (الإخضاع، الاستملاك المباشر، إلخ)، وليس لمجرد شذوذ بعض الأفراد عن الإرادة العامة (كما يسهل للبعض القول)، إنّما بسبب عقد السوق الحر، ذلك التورط الضمني للجميع في إضفاء الشرعية والانضواء الكلي في منطق الحياة الرأسماليّة. وبالتالي فإنّنا إذ نقف اليوم ضد هذه المستجدات والمخاطر، فإننا نقف أيضًا ضد غريبنا الداخلي، أو ما اعترى ذاتياتنا من تحوّلات وتقمّصات. ففي الأجواء ليس شبح تصادم قاسٍ جديد مع سلطة الاحتلال فحسب، بل أيضاً شبحٌ آخرٌ يؤازره، هو شبح الخذلان أمام الذات وما عرفته من قيم جمعية حميمة.
بالنسبة لي، جاء مشروعنا لتوثيق ذاكرة إضراب سنة 1982 متزامنًا مع مواجهة هذه اللحظة التاريخية الصعبة. مما فرض علينا تحديًا صعبًا في إعادة اكتساب المعنى واليقين. ولعل ذلك يبدأ باستغلال القطيعة لفتح السؤال التأريخيّ واستجواب الذاكرة بشكل مثمر، لإنتاج معنى وممارسة حِداد جديدة. فتحديدًا بسبب ذلك الإحساس الواعي لدى الجميع بأن الإضراب الكبير بات تاريخًا، وبأن خلخلة وانزياح كبيرين قد حصلا في الذاكرة المحلّيّة، من الممكن أن نسأل أسئلة جديدة. إن شرط استمرار الذاكرة هو تعريضها للنقد التأريخي. فحين يعترض الحسّ بالانقطاع خصوصيةَ وعفويةَ الذاكرة، تنتج أفعال تذكّر جديدة وسرديات جديدة تكشف عن أسرار نشأة وقوة العرف المضاد، عن أسرار الإحساس بالهوية والمشترك الأخلاقي-الرمزي العام. ما كان في الماضي بديهيًا ولا حاجة لأن يُذكر او يُسرد، يظهر الآن بمعنى جديد وبقيمة سردية جديدة. إذا ما عمل المرء على تجميع الذاكرة بشكل منهجيّ في هذه الأيام، فقد يجد فيضًا من الذكريات والقصص الجديدة، أكثر ممّا يمكن تسجيله أو استخلاص مغزاه. وهذا أمر جيّد وليس مجرد صعوبة أو عقبة أمام البحث. إذا ما وضعنا الحسرة على الماضي الجميل جانبًا، يمكن لحالة الجولان أن تثبت في الواقع أنّها أرض خصبة لممارسة التاريخ الشفويّ، وأنّ تلك الممارسة قادرة على إحداث فرق في سردية الهوية الحائرة. لكن علينا أن نتجاوز الحنين إلى أُحادية المعنى في تلك السردية، وأن نفتحها على المتجدد الخلاّق، وفي ذلك يكمن الأمل رغم المرارة والاغتراب. على الذاكرة دومًا أن تنحاز إلى البدايات الجديدة والتجاوز.