المَبادِئ القانونيّة وَحْدَها لَنْ "تُسْعِفُ" أَطفَال غَزّة

في الشَّهر المَاضي، وثَّقت "الحركة العالميّة للدفاع عن الأطفال – فلسطين" (DCIP) المِحنَة المروّعة التي عاشها أطفال عائِلة حسّونة، الذين شَهِدوا مَقتَل والديهم على أيدي الجنود الإسرائيليين.
كانت الأُسرة المكوَّنة من ستة أفراد -بمن فيهم أربعة أطفال تتراوح أعمارهم بين 6 و14 عامًا- قد أُجبِرت على الفرار من منزلها خلال اجتياح إسرائيلي برّي. لجأوا، بحثًا عن الأمان، إلى "جمعيّة الأيتام التركية"، لكنهم وجدوا أنفسهم محاصَرين مِنَ القوات الإسرائيلية مدةَ 22 يومًا، غير قادِرين على المغادرة أو الحصول على الضروريّات الأساسيّة مثل الطعام والماء.
قرّرت العائلة الانتقال إلى مكان آخرَ خوفًا من استهداف المَبنى. لكن، بمجرد خروجهم، أَطلَقَت القوات الإسرائيلية النار، وأصابَت الوالدين أمام أطفالهما. وعلى الرغم من إصاباتهما، واصل أفراد العائلة الفرار حتى وَصَلوا إلى مبنى مهجور قَيدَ الإنشاء، حيث حاصرتهم القوات الإسرائيلية مرّة أخرى.
في داخل المبنى، نَزَف الوالدان أمام أطفالهما من الساعة السابعة صباحًا حتى الساعة الحادية عشرة والنصف من صباح اليوم ذاته، حين استُشهدا متأثِّرَين بجروحهما. وظلَّ الأطفال بجانب جثّتي والديهم مدّة يومين دون طعام أو ماء، بينما كانت الكلاب الضالة تنهش جثّتيهما. في النهاية، تمكن أعمامهم من إنقاذهم.
تُجسّد هذه الحادثة الواقع المروّع الذي يَعيشه الأطفال الفلسطينيون في غزة اليوم، حيث يعيشون في خَوف دائم، محرومين مِنَ الأَمان والطّعام والرعاية الطبيّة. كثيرون منهم فَقَدوا أشقاءهم ووالديهم وأفراد أسرهم ومجتمعاتهم، بينما تستمر القوات الإسرائيلية في استهداف المدنيّين الفلسطينيين وقَتْلهم، بمن فيهم الأطفال الذين أصبحَت حياتهم دائرةً لا تَنتهي مِن الدمار والفقدان، في انتهاك متواصل للقانون الإنساني الدولي دون أَيّ محاسبة.
أَزمة تَتَجاوز الوَصف
بصفتي مدافعًا عن حقوق الأطفال الفلسطينيين لأكثر من 25 عامًا، غالبًا ما يُطرح عليَّ سؤال: هل أحدَثَت المُنظَّمات الدوليّة أيّ فَرق في التّخفيف من معاناتهم؟
كان جوابي في السابق أنه رَغم عَدم قُدرة هذه الجهود على وَقْف الانتهاكات الإسرائيلية بالكامل، فإنها لعبت دورًا حاسمًا في الحدّ من شِدّتها.
لكن في ظلّ فشل المجتمع الدوليّ خلال الهجوم العسكري الإسرائيلي الشامل على غزة منذ تشرين الأول 2023، هل لا يَزال هذا الجواب صالحًا؟
في الأشهر الخَمسة عَشَر الماضية فقط، ألحَقَت العمليات العسكرية الإسرائيلية كارثةً إنسانية بالأطفال الفلسطينيين. قُتل أكثر من 18,000 طفل، وأُصيب عشرات الآلاف أو تُركوا يُعانون من الصدمات النفسيّة. من المرجح أن يكون العدد الفعليّ للضحايا أعلى من ذلك، حيث لا يزال الكثيرون محاصَرين تحت الأنقاض أو يموتون جوعًا ومرضًا. يراقِب العالَم بصمت بينما يموت الأطفال بسبب سوء التغذية، حيث تم تسجيل 44 حالة وفاة على الأقل بسبب الجوع حتى الآن.
حَرَمت الإبادة الجماعيّة المستمرّة في غزة الأطفال مِن أَبسَط احتياجاتهم الإنسانية: الطعام، والماء، والمأوى، والرّعاية الطبّية. إن حَجم هذه الفظائع يُثير السُؤالَ المُؤْلم: أَينَ المجتمَع الدوليّ؟
كان العُدوان الإسرائيلي المستمِر على قطاع غزة تتويجًا لمجموعة مِن الممارسات والإجراءات تمثّلَت بإغلاقه شبه الكامل منذ17 عامًا، مما أدى إلى عزل سكانه إلى حدّ كبير عن بقيّة العالم، مع حرمان نحو 2.1 مليون ساكن من حرّية الحركة،وبالتالي الحِرمان من حقوق الإنسان الأساسية، بما في ذلك الحقّ في العمل والصحّة والتعليم والأمن الجسديّ والغذاءالكافي والماء والسّكن. لقد أدّت السّياسات والإجراءات الإسرائيلية إلى خلق وإدامة كارثة إنسانية مِن صُنعالإنسان تمامًا، ولها عواقب وَخِيمة على الفلسطينيين الذين يَعيشون في واحدة من أكثر المناطق اكتظاظًابالسكان في العالم.
منذ أن نفَّذَت السلطات الإسرائيلية سياسات الإغلاق تجاه قطاع غزة أوّلَ مرّة في العام 2007، شنّت عليه عدّة هجماتعسكرية كبيرة سَبَقت العدوان الأخير، خَلَّفت مجتمعة أكثر من 1,165 طفلًا قتيلًا، وآلافًا آخرين من الأطفال المصابين أوالمعوّقين. ناهيك عن الانعكاسات النفسيّة على الأطفال نتيجة العيش تحت القصف المستمرّ على منازلهم خلال هذه العملياتالعسكرية.
وَهْم الحِماية
لَطالما دافَع المجتمع الدولي عن حِماية الأَطفال في مناطق النّزاع، ووثَّق حقوقَهم في مواثيق قانونيّة، مثل اتفاقية الأمم المتّحدة لحقوق الطفل .(CRC) من الناحية النظريّة، يجب أن يكون الأطفال محميّين مِن وَيلات الحرب. ومع ذلك، فإن الواقع الذي لا يُمكن إنكاره هو أن الأطفال الفلسطينيين يُتركون دون أَيّ حِماية.
على الرغم مِن الالتزامات الإسرائيلية بموجب القانون الدولي، لا يزال الأطفال الفلسطينيون يُستهدفون ويتعرّضون لمعاناة لا يُمكن تصوُّرها. تَرتَقي الهَجَمات العسكريّة العشوائية وغير المُتناسِبَة، التي أَصبَحت أمرًا اعتياديًّا، إلى مستوى جَرائم الحرب الواضحة. توحي التّصريحات الدُبلوماسيّة والقرارات القانونية بالالتزام بحماية الأطفال في مَناطق النزاع، لكن في غزة، تبدو هذه الوعود فارِغة بالنسبة لأطفال عائلة حسونة وآلاف غيرهم.
الحقيقة القاتمة هي أن المجتمع الدولي فَشِل في اتخاذ إجراءات حاسِمة. لا تزال أَبسَط أشكال الحماية مجرَّد حُلُم بعيد المنال للأطفال الفلسطينيين، بينما يظل القادة العالميّون متواطئين بِصَمْتهم.
نِداء للعَدالة... بِلا إِجابَة
سوف يتذكّر التاريخ هذه اللحظة. سيتذكّر عالَمًا زَعَم أنه مُلتزِم بحقوق الأطفال من خلال القوانين والآليات الدولية المتقدّمة، لكنّه في النهاية وقف متفرّجًا بينما عانى أطفال غزة مِن أَهوال لا توصف.
مع استمرار تهديد المَرَض والجوع وحتى التّطهير العِرقي، يَبقى السؤال: هل سنسمح باستمرار هذا الظُلم؟ أم أننا سنُطالب بالمحاسبة والعدالة والحماية التي يحتاجها هؤلاء الأطفال بشدّة؟
لقد حان وقت التحرّك الآن. يجب على المجتمع الدوليّ أن يرتقي إلى مستوى التزامه الأساسي بكرامة الإنسان، وألا يُترك الأطفال الفلسطينيون طيّ النّسيان بعد الآن.

عايد أبو قطيش
مدير برنامج المساءَلة في "الحركة العالميّة للدفاع عن الأطفال – فلسطين" - (DCIP).