لسنا بحاجة إلى شرح أهمية الثقافة في حياة الشعوب على الصعيدين العام والخاص، لكننا على ما يبدو في حاجةٍ لإعادة تعريف البعض من "منتجاتها" التي أفرزت مشهداً متشابكاً أدى إلى خلق العديد من "الحواجز" بينها وبين الجماهير بسبب مفاهيم وفئات شوهتها من جهة، وفصلتها عن الواقع من جهة أخرى، لذلك قد تكون الصفتان الأكثر أهمية في زمننا الحالي لأي فنان أو مبدع "حقيقي" أياً كان مجال إبداعه هما القدرة على إنتاج عمل يستطيع الارتقاء والتحليق بذائقة وفكر ووعي المتلقي وجدانياً بحيث يشكل إضافة نوعية إليه، إلى جانب القدرة على ملامسة الواقع اليومي والتماهي مع أبنائه قدر الإمكان..

لكن غياب أو ندرة هذه النوعية من الأعمال فضلاً عن قلة من تتوافر فيهم هذه الصفات زاد من تدهور الحالة الثقافية عموماً وترك فجوةً كبيرة بينها (أي الثقافة) وبين المواطن العادي، خاصةً بعد أن تولد لديه الشعور بأن المجتمع الذي يعيش فيه لا يعيرها اهتماماً فعلياً (إلاّ من باب التباهي وحب الظهور) حيث بات يجنح بقوة نحو كل ما هو سطحي ومادي، عدا عن ملاحظته الدقيقة التي لا يستهان بها (وإن كانت في صمت) لتبدل الكثير من آراء وأفكار ومواقف أغلب المثقفين بعد الأحداث المتتابعة التي عصفت بالعالم العربي اجتماعياً وسياسياً، خاصةً في العقد الماضي ووصولاً إلى المرحلة الحالية، والتي اتسم "أغلبها" بالسلبية والنفعية والتناقض والازدواجية والانسياق خلف الكثير من الموجات التي لم يكن ينبغي أن يتبعوها، إلى جانب التعالي على الناس و(تعمد) الحديث بطريقة ومصطلحات غير مفهومة للمواطن البسيط، وبأسلوب"يسوق" لظهور هذا (المثقف) أو ذاك دون وجود فكرة أو معنى هام وكأنها صفقة إعلامية، وهو ما أضعف مصداقية شريحة هامة منهم أو وضعهم في خانة (المتسلقين أو المتاجرين بأوجاع البسطاء) للوصول إلى الشهرة التي "يعتبرونها" بمثابة "حصانة من النقد والمسائلة" ودليلاً على "نجاحهم" وصواب ما يقدمونه، وهو ما يزيد من شعور النقمة لدى العامة تجاههم كما يزيد من اتساع الهوة بين الناس وبين المثقف والثقافة (على اعتبار) أنه يمثلها.

كما ساهم التحول الهائل الذي يشهده عصرنا في اعتبار قطاعٍ من المتلقين للثقافة على أنها "سلعةٌ تجارية" ونوع من الترف والرفاهية بعد أن كانت قيمةً معنوية، حيث يرى البعض أن الكثير من حصيلة هذه الأفكار منقولٌ عن تجارب غربية أو لا يصلح للممارسة بشكل فعلي في بلادنا كون الهم الأكبر بات منصباً على تأمين أساسيات العيش الكريم التي تغيب مناقشة همومها عن معظم نتاج المثقفين حالياً، بدءاً من بعض اختيارات الُكتاب والفنانين للموضوعات التي يطرحونها وأساليب كتابتهم وأدائهم، مروراً بتغير نمط وشكل القراءة والإصدارات المطروحة ووجود مواقع ومنصات متخصصة في تقديم تجارب مختلفة ومتنوعة بمفاهيم جديدة لها، ووصولاً إلى ارتفاع تكلفة الحصول على الكتب أو متابعة الفعاليات الثقافية (حتى وإن كانت إلكترونية).

فبعد أن كان المبدعون يمثلون الاتجاه العام ويمدون أيديهم للنهوض بالشعوب من خلال تقديم القدوة والنموذج لهم عبر نقل واقعهم بلغةٍ راقية.. أصبح الحديث عن قضايا فرعية أو العودة إلى الماضي أو "استعارة" النظرة الغربية لتقديم مشكلات محلية أو البحث المستمر عن إثارة الجدل هي السمة الغالبة على الأعمال والإصدارات الشحيحة نسبياً مقارنةً بما ينبغي أن تكون عليه، مما يدفع الكثيرين اليوم إلى التساؤل بصراحة ووضوح عما "قدمه" المثقفون وما "ستقدمه" الثقافة له إن كانت من الأساس تقصيه وتتجاهله وتتجاهل قضاياه وتتوجه بخطابها إلى فئة نرجسية محدودة "لا تراه" وتعيش لأجل "صورتها الشخصية" لا "لصورة مجتمع" ينتمي إليه كما ينتمون اليه، خاصةً أن مواقع التواصل الاجتماعي رغم الكثير من سلبياتها سمحت بطرح أسئلة مباشرة ومشروعة من مختلف الخلفيات والشرائح التي ترفض أن تدور في فلك بعض "الوجوه المعروفة" أو أن ينظر لها على أنها في مرتبة أقلٍ منهم.

واليوم عند النظر من مختلف الزوايا إلى إشكالية العلاقة بين الناس وبين الثقافة لن نجد العيب في أحدهما أو في اللغة بصفتها الحاضن لهذه الصلة، لكننا سنجدها في انعزال المثقف عن محيطه وانشغاله بتقديم نفسه أكثر من انشغاله بتقديم أفكار تخدم قضايا مجتمعه وهو عكس الدور الذي يفترض أن يلعبه، وما يشعر المتلقي بأنه بات لا فرق بين المبدع وبين أي شخص يبحث عن الظهور على مواقع التواصل الاجتماعي، إلى جانب استخدام مفردات بعيدة عنه والتطلع إلى محاكاة تجارب لا تشبهه شخصياً أو تشبه بيئته، وعندما تتلاشى هذه الأسباب أو تتراجع حدتها على الأقل ستعود نظرة المجتمع للثقافة إلى ما كانت عليه، لأن الجميع سيجد مكاناً له وصوتاً يعبر عنه ويدفعه إلى اعتبارها أولويةً من جديد بعد أن كان على هامشها لفترةٍ طويلة وسنرى الكتاب ثانيةً بين أيدي الصغار والكبار، سنجد عامل النظافة وحارس المبنى والبائع المتجول يناقشون فكرة، ينبهرون بصورة، يطربون لقصيدة، يستمتعون بلوحة وربما برز منهم مبدعون جدد قادرون على تغيير ما لم نستطع تغييره من خلال فطرة سليمة وذوق رفيع وموهبة تحطم كل القيود الوهمية التي بناها الإنسان مجدداً بعد أن عاش عمره يجتهد في التخلص منها.

خالد جهاد

كاتب وشاعر فلسطيني - أردني، له مقالات متنوعة في الشأن الثقافي والاجتماعي

شاركونا رأيكن.م