ماذا بعد الحرب الإسرائيلية على غزة؟

تقترب الحرب التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة من دخول شهرها الرابع، وقد جاءت إثر عملية "طوفان الأقصى" التي كانت عبارة عن هجوم مباغت شنته حركة "حماس" على مواقع عسكرية وبلدات في الأراضي الإسرائيلية المحاذية لقطاع غزة والمعروفة باسم "غلاف غزة" يوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023. وبالوسع القول إنه بمنأى عن الإجماع الإسرائيلي على ضرورة شنّ هذه الحرب ضد قطاع غزة ردًّا على تلك العملية، وعلى وجوب أن تكون غايتها القضاء على حركة "حماس" عسكريًّا وسلطويًّا، فإن الكثير من التحليلات الإسرائيلية المتعلقة بتداعيات العملية على ما يُسمّى بـ "اليوم التالي" للحرب حدّدت عدة تأثيرات من شأنها أن تكون حاسمة في مسار إسرائيل، بما في ذلك ما يرتبط بالصراع مع الفلسطينيين. وسنتوقف هنا عند بعضها:

التأثير الأول، سقوط الاستراتيجيا الإسرائيلية حيال "حماس" والتي وقفت في صلبها غاية تكريس الانقسام الفلسطيني السياسي والجغرافي بغية تجييره لمنع إقامة دولة فلسطينية، مثلما لا ينفك رئيس الحكومة الإسرائيلية وزعيم اليمين الإسرائيلي الحاكم بنيامين نتنياهو يؤكّد صباح مساء. وبالإمكان إيراد نماذج كثيرة بشأن هذا الاستنتاج أبرزها، على سبيل المثال، النموذج الذي يسخر من اتفاقيات التطبيع التي وقعتها إسرائيل مع بعض الدول العربية بموجب "اتفاقيات أبراهام" وكانت تسعى في الآونة الأخيرة لتوسيعها بحيث تشمل السعودية وغابت عنها القضية الفلسطينية، ما جعل رئيس الحكومة نتنياهو يتباهى بتمكّنه من بتر العلاقة بين هذه القضية وسيرورة تطبيع علاقات إسرائيل مع الدول العربية. ويشدّد هؤلاء الساخرون على أن هذا التطبيع يقفز عن لبّ الصراع في منطقة الشرق الأوسط، وهو القضية الفلسطينية، وجاءت الأحداث المرتبطة بآخر مستجدات الأوضاع في قطاع غزة كي تثبت مرة أخرى أنه لا يمكن مداواة المأساة الشرق أوسطية من دون اقتراح تسوية مع الفلسطينيين. كما أنه من وجهة نظر مَن يرغب في تعميق المشروع الاستيطاني وتوسيعه في الضفة الغربية وليس معنيًا بحل الدولتين اعتقد اليمين في إسرائيل أنه مع "حماس" بالإمكان إدارة الصراع على نار هادئة، إذ لن تطلب هذه الحركة الدخول في مفاوضات لأنها غير معنية بالمفاوضات. والاستنتاج من ذلك هو أن الرؤية التي تقوم على الاعتقاد بإمكان احتواء الصراع، انهارت واختفت من العالم صبيحة يوم 7 أكتوبر.

التأثير الثاني لعملية "طوفان الأقصى" الذي قد يكون حاسمًا، وفقًا لبعض القراءات الإسرائيلية، هو توجيه ضربة إلى صميم الصورة التي بنتها إسرائيل لنفسها في العالم فيما يتعلق بوعود ناجزة ومترتبة على معناها كدولة متقدمة في مجال الاستخبارات وتكنولوجياته الأحدث، وفي إنتاج الصناعات الأمنية، بما في ذلك الذخائر الهجومية والدفاعية. فمثلًا، حتى عملية الهجوم تباهت إسرائيل بأن الجدار الأمني الذي أقامته في منطقة الحدود مع قطاع غزة لا يمكن اختراقه. وأشير في هذا الصدد إلى أنه جدار مُدجّج بأجهزة تكنولوجية متطورة ومليء بأسلاك شائكة وكاميرات وأجهزة استشعار، ومُحصّن بقاعدة خرسانية ضد الأنفاق ومدافع رشاشة يتم التحكّم فيها عن بعد. وكتب محلّل الشؤون الأمنيّة الإسرائيلي رونين برغمان في صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية أن مصدريْن أمنييْن إسرائيلييْن رفيعي المستوى قالا للصحيفة إن منظومة المراقبة استندت، تقريبًا فقط، إلى الكاميرات وأجهزة الاستشعار عن بُعد وإلى منظومة "يرى- يُطلق النار" التي تُفعّل عن بُعد. واعتقد المسؤولون الكبار في الجيش أن الدمج ما بين منظومة المراقبة عن بُعد، وبين الجدار الصلب، والحاجز تحت الأرض لمنع الأنفاق التي تمرّ من تحت الجدار، سيحوّل اختراق الحدود نحو إسرائيل إلى غير ممكن تقريبًا، ويقلّل الحاجة إلى عدد كبير من الجنود الموجودين في القواعد العسكرية. ونقلت وسائل إعلام إسرائيلية عن امرأة من كيبوتس "بئيري" القريب من قطاع غزة والذي عثر فيه على عشرات جثث القتلى قولها: "عندما أقاموا الجدار اعتقدنا أننا آمنون. وما يتبيّن الآن أن ذلك كان مُجرّد وهم". ويتعيّن أن نلفت هنا لوجود مؤشرات إلى أن المكانة التي بنتها إسرائيل في الأسواق العالمية فيما يتعلق بصناعة وتسويق وبيع تكنولوجيا جدران الفصل، أخذت بالتداعي في إثر هجوم "حماس"، ومن المتوقع أن يعود الأمر على إسرائيل ليس فقط بخسائر مادية وإنما أيضًا بخسائر تتعلق بمكانتها المرموقة في هذه الصناعات. وهو ما ينسحب أيضًا على صناعات أمنية أخرى.

 التأثير الثالث يتعلّق بالعلاقات الخاصّة مع الولايات المتحدة. فمنذ اليوم الأول أعلنت الإدارة الأميركية دعمها لإسرائيل في حربها على قطاع غزة على نحو يتجاوز إطار التحالف التقليدي بين دولتين. وشمل الدعم الأميركي لإسرائيل ولا يزال مجالات عديدة: الدعم السياسي، والدعم الدبلوماسي في مجلس الأمن الدولي، والدعم العسكري، والدعم الاقتصادي، وتبني السردية الإسرائيلية. ولا بُدّ من التشديد على أن الدور الأميركي لم يقتصر على الدعم، بل تعدّاه رويدًا رويدًا إلى الشراكة في وضع أهداف الحرب السياسية والتي لا توليها إسرائيل حتى الآن كبير اهتمام بسبب نزعتها للانتقام عسكريًا من حركة "حماس" وقطاع غزة، بما يجعل رؤيتها مقتصرة على هذا الأمر فقط. ومما لا شكّ فيه أن أي قراءة للدور الأميركي في الحرب على غزة يجب أن ينطلق من أن دور واشنطن لن يبقى محصورًا في تقديم الدعم لإسرائيل وإمدادها بالذخائر خلال الحرب، بل يتجاوز ذلك إلى التدخل في صوغ أفق سياسي واستراتيجي لها، وربط الأهداف العسكرية الإسرائيلية بالأهداف السياسية والاستراتيجية للولايات المتحدة ومصالحها في منطقة الشرق الأوسط.

ويبقى الأمر الأكيد- حتى لحظة كتابة هذا المقال- أن الأفق السياسي والاستراتيجي المذكور سيكون محكومًا وربما أساسًا بالمنطق المترتب على نتائج الحرب، حيث يثبت يومًا بعد يوم أن النتائج تتناءى عما تتمنى إسرائيل تحقيقه، وعما ترغب بأن تتطلّع نحوه بناءً عليها.

أنطوان شلحت

كاتب صحافي ومحلل سياسي فلسطيني.

شاركونا رأيكن.م