في بستان (معلمي) أحرقت أشعة الشمس قبة رأسي الحليق، فسهرت الليل مرغما، مستبطنا أناة الألم، ورغبة الرجوع إلى غزة.

كانت ساعات الليل طويلة ثقيلة الظل، قضيتها متقلبا على وجعي، مستجيرا بحلم صغير بحجم ما ادخرت من شواقل، دكان خلته متواضعا بعض الشيء، قريب من البيت بعض الشيء، ومطل بالطبع على البحر، فالبحر شباك غزة الفسيح، ومحط أنظار أهلها كل شرود.

باغتني ضوء النهار وأنا لا أزال مسترسل الفكر أكدس فوق رفوف الرؤية علب سجائر وكعك، وما شاكل من بضائع. أوصدت باب الحلم وانتصبت واقفا فوق السرير فاضطرمت جلدة هامتي من جديد، بأناة وضعت كفي فوق رأسي الملتهب وأنا أنفث نفسا طويلا حارا، وأقسم بكل نفيس أن أرسل شعري بعد الآن حتى كتفي، وأعتمر قبعة عريضة إلى آخر العمر، لكنني لاحقا سأنسى أمر القبعة وألازم عادة حك رأسي بأطراف أصابعي كل حين.

لا زال النور يقتحم الغرفة ببطء، يكوم أشيائي في ركن الحجرة بعد أن يزيح عنها مناديل الليل الباهتة، ويكشف عراء الجدران، قفزت عن السرير متثاقلا كأن جسدي مربوط بمظلة، كشفت الغطاء عن قفص اكتريته بما فيه من محل يبيع الحيوانات الأليفة في مدينة أشدود، صاح الببغاء على الفور: "شلوم"؛ أجبته بدوري:

_ (ولا يهمك، بس نرجع بعلمك تحكي عربي، وبعلمك تغني كمان.)

ثم حملت الحقيبة والقفص وانطلقت..

في غزة كان البحر رصاصي اللون هائجا، والسماء سوداء ملبدة بأجنحة غربان تضغط الهواء على الصدور، فأل سوء بادرني منذ البداية بانكماش الحلم إلى كشك متواضع على ناصية شارع يمتد باتجاه الأفق البحري، وزعت أصناف البضائع كلا في مكانه، وحشرت بداخل فراغ على أحد الرفوف قفصا من خشب، ثم قضّيت الأيام الأولى من عملي الجديد أحادث الببغاء وأحاول البر بوعدي في تعليمه لغة الضاد فلا يبدي تجاوبا يذكر:

_ قل دخّان وطنيّ...

_ ( شلوم )

_قل: (دخّان مستورد )

_ ( شلوم )

_ قل: أهلا وسهلا.

_ ( شلوم )

_ يا ابن الكلب قل: نموت وتحيا فلسطين.

_ ( شلوم )

_ ( أوف منّك يا مسخ اليهود، بس لون ريشاتك بيعوضني فيك )

ثم استدرت إلى الواجهة وشرعت أمشط الجزء المنكشف من المدينة الباهتة على إحداثيات النظر، بدت كتل الإسمنت المكدسة فوق بعضها كومة هائلة من رماد بارد، لا ينازع اللون الكتيم اخضرار ذو قدرة على المنافسة، اندحرت بقية الألوان تلوذ بألبسة الأطفال ورسوماتهم فوق بياض الكراريس المدرسية، ولم يبق إلا طغيان الرمادي المنعكس على البحر.

انتشلت نفسي الشاردة بين أحياء المدينة المتداخلة بعضا ببعض، درت حول مقعدي بلا هدف، ثم أشعلت لفافة تبغ وأخرجت رأسي من فتحة الشباك الصغير شادا فقرات عنقي حد التشنج، التفتّ إلى اليمين وإلى اليسار، أفرغت من جوفي الدخان ممزوجا بفحيح التحسر، وعدت إلى مكاني ويدي فوق رأسي متسائلا:

_ (كمان اليوم ما في زباين؟ ) 

صاح الببغاء:

_ ( شلوم )

_ (الله لا يسلمك يا وجه النحس، ولك وين السلام وين، ليش هن صحابك بدهن سلام؟) 

_ ( شلوم )

_ ( شلوم )

اجتاحني الإحساس بالضيق فجأة، وأنا أشعر أني ورّطت نفسي بغراب متنكر ببهرج اللون، وأني لأول مرة أكاتمه العداوة وأتحين الفرصة للتخلص منه، ولكن كيف لي أن أجد واحدا من أهل غزة يقبل عشرة طائر لا يريد تكلم لغته الواضحة. 

فركت فروة رأسي النابتة بأطراف أصابعي، ثم التقطت قطعة قماش سميك ألقيت بها فوق أقواس القفص المتشابكة، واختليت بالهموم، أنبش في رأسي الدليل على وجهة لا ينسد في مداها الأفق.

مضى حين وأنا على حالي، حتى وقع نظري أخيرا على ثلة من الأطفال في الجهة المقابلة من الشارع، تهلل وجهي وأنا أقول لنفسي:

_ ( إجتنا الرزقة )

كدت أناديهم لكني انتظرت اقترابهم أكثر، عندها أطلقت صوتي المجلجل الخشن، لكن ضجيجا قويا زلزل السماء، وصم الآذان المشوشة أصلا، سكت وعيناي لا زالت معلقة بصغار تعلقت أنظارهم لتوها بالسماء، كانوا على مرأى من الله ومن الطيار ومني حين سقط الصاروخ ونثرهم أشلاء متباعدة، سقطت على الأرض بدوري من شدة الانفجار، وما إن تداركت الخطر المحيق وحاولت الانطلاق مترنحا خارج علبة المعدن، حتى قذفني صاروخ آخر مسافة ما ورشقني بكل ما وقع عليه من شظايا، وقبل أن أستشعر دفق دمي الدافئ فوق التراب، حاولت رفع رأسي وسط عاصفة من الغبار فلم أفلح، ولم أعد أرى شيئا، تهالكت ببطء وفقدت آخر وميض من الوعي.

في إحدى صباحات العمر الذي لم يعد الآن مغايرا بهول ما كانت عليه تلك اللحظات الفارقة، تخلصت إلى الأبد من عادتي الكريهة في حك رأسي بأطراف أصابعي. كان صباحا صحوت فيه على جسد بلا أطراف مكوما فوق سرير أبيض ملطخ بالدم المخثر، جاهدت أياما كي أتخلص من الألم وبلاهة النسيان، وأستعيد شيئا من ذاكرتي التي ظلت مدفونة هناك تحت الأنقاض، وأول ما أثمر جهدي بعد كل ذاك العناء، مشهد أناس وجهوهم مموهة تشي بالرعب، يلبسون جميعا سترات برتقالية زاهية اللون، وطائر جميل منقاره معقوف كنصل خنجر، كان الانفجار قد أطلقه من القفص سليما بلا خدوش، فقفز فور انزياح غيمة الغبار فوق تلة الركام وهو يزعق بكل ما أوتي من قوة الصوت:

_ ( شلوم )...( شلوم )...( شلوم ).....

نضال عارف الشوفي

درس المسرح في الجامعة العبرية بالقدس لمدة سنتين. درس علم الآثار والمتاحف في جامعة دمشق لأربع سنوات. ودرس التصوير الفوتوغرافي لمدة سنتين في المركز الثقافي الفرنسي. والمركز الثقافي الروسي، وشارك في أربع معارض في دمشق والجولان. مارست الكتابة الأدبية. وصدر له رواية بعنوان " شجرة اسمها نعمة "، ومجموعتين قصصيتين تحت العناوين: " هكذا أتشبه بالشجر "، و" البيضة والسهم ". إضافة لمشاركة وحيدة مع مجموعة من الكتاب العرب في كتاب " أنطولوجيا القصة القصيرة ". ونشر له العديد من المواد في المجال الأدبي، وفي تاريخ الفن والتاريخ الأثري في مجلات ودوريات كتشرين الثقافي، والمؤرخ المغربية، وواتا، وفي نشرات ومواقع محلية.

شاركونا رأيكن.م