ماتَ النّظام عاشَ لُبنان.. بَعدَ سوريا!
يَبدو أنّ لبنان أمام فُرصة ذهبيّة، لاستِنقاذ دولته ومؤسّساته وشَعبه، مِن براثِن نظام الأَسَد "المُزمِن"، بَعد سُقوطه على أيدي أحرارِ سوريا، وتَفكّك مِحور المُمانعة وفي مُقدّمه "حزب الله"، الذي استَلم "شُعلَة" السَّطوة وحِماية الفَساد عن النظام البائد، بُعيد انسحابه عسكرياً وتجذّره "عَن بُعد" أمنيًّا وسياسيًّا، والتي مِن المُفتَرَض أن تَهمَد جَذوتها تدريجياً، مع انكفاء الدّور الإيراني وأَذرُعته في المنطقة، والرهان على قيام دولة سورية واعدة، تُعيد إنتاج سلطة لمصلَحة الشّعب لا النظام، والتي من المفترض أن تنعكس بالمِثل على لبنان.
بدا انهيار نظام الأسد في سوريا سريعًا، إذا ما اقتَصر الوصف على المشهد الأخير من انتفاضة السوريين على نظام الاستبداد، الذي قَتل وقَمع وسَجن وأَحرق البلاد، في سبيل تأبيد نظام العائلة التي حكمت سوريا ٥٤ عامًا، وفي أقلّ من عشرة أيام نَجحت الفصائل المعارضة وعلى رأسها "أحرار الشام"، في إسقاط المدن السوريّة على التوالي، من حلب وحماه وحمص، وكانت دمشق في قبضتها بعد ساعات على فرار الرئيس بشار الأَسَد إلى روسيا لاجئًا إنسانيًّا، في خطوة أثارت ردّات فعل منددة من قبل المحيطين به ومن حَرَسِه، الذين وصَفوه بأوصاف شتى من "الجبن" إلى "النذالة" و"الغَدر".
وهو نظام طالّ وقت سقوطه، إذا ما كان المَشهد منذ البداية؛ أيّ مع انتفاضة الشّعب السوري في العام ٢٠١١، حيث شهدت تلك المَرحلة التي امتدت نحو ١٤ عامًا، حتى بداية الشهر الأخير من العام ٢٠٢٤، سقوط مئات آلاف الضحايا، وهجرة ونزوح ولجوء أكثر من سبعة ملايين سوري، توزّعوا في دول الجوار وفي أصقاع العالم، في وقتٍ بَدَت الحلول السياسيّة غير قابلة للتحقّق، ولا سيما القرار الدولي رقم ٢٢٥٤، الذي كان وضع مسارًا للتحوّل السياسي، رَفَضه النظام بقيادة الأسد.
الكارثة السورية هذه، بَدَت قبل مشهد أيام الزّحف بدءاً من حلب في الشمال إلى دمشق في الجنوب، أنها مُقيمة ومَديدة، وأن فُرص التسوية والحلول انتهت، وأن الرئيس بشّار الأَسَد مُطمئِن إلى بقائه حاكمًا، ولو في بَلَد تتناتشه دُول عدّة، من تركيا إلى إيران وروسيا، فضلًا عن الوجود العسكري الأميركي في الشرق.
انهيار النظام، بكلّ ما أُحيط به من تداعيات الضربات العسكرية الاسرائيلية، التي تلقّتها طهران وميليشياتها في سوريا، وانكسار "حزب الله" في حرب الإسناد في لبنان، وانكفاء الدور الروسي، كان إيذانًا بنهاية الوُجود الإيراني الاستراتيجي في سوريا، وشكّل دخول فصائل الثورة السورية، إعلان مرحلة جديدة في الداخل السوري، بمظلّة تركية وترحيب أميركي، وغضّ نظر إسرائيلي في الحدّ الأدنى.
وعليه، فلقد استثمر فصيل "أحرار الشام" وبدعم تركي، هذه اللحظة التاريخية، للتمسّك بزمام المرحلة الانتقالية، فيما بدت الدول العربية بين متوجّسة ومترددة، في دعم السلطة الجديدة.
لا شك أن العلاقة مع سوريا شكّلت إحدى معضلات أزمة لبنان منذ الحرب الأهلية، ومع الدخول العسكري السوري إلى لبنان، ولاحقًا مع الوصاية السورية عليه، بعد اتفاق الطائف عام ١٩٨٩، حيث عانى لبنان من عَمل أمني وعسكري وسياسي سوري، لتطويع الحياة السياسية، وإنهاء ما تشكّل من مظاهر ديمقراطية، وجَعْل لبنان حديقة خلفية لسوريا، تمارس من خلالها كلّ عمليات الابتزاز الإقليمي والدولي، عبر التفجيرات وعمليات الاغتيال والخطف، والسعي الدؤوب للتحكم بالقرار الفلسطيني. وساهمت الوصاية السورية على الحياة اللبنانية، في جعل الولاء للأَسَدين شرطًا لتولي المناصب الرسمية، كما نشأت في ظلّ الوصاية إدارة أمنية سياسية تجارية من خارج القانون، قائمة على نظام الفساد ونهب مقدّرات الدولة اللبنانية، في مجالات الحياة الاقتصادية كلّها.
ولئن كانت قبضة النظام السوري تراخت، مع انسحاب الجيش السوري عام ٢٠٠٥ إثر اغتيال رفيق الحريري، فإن "حزب الله" ملأ فراغ هذه الوصاية بالتدرّج، وأمكن لسوريا أن تستمر في ممارسة نفوذها من خلال الحزب نفسه، وعبر شبكة مصالح سياسية واقتصادية وحتى أمنية بعد انسحابها، وبدعم من الوكيل؛ أي "حزب الله".
انهيار النظام السوري، لا يقل في أضراره على "حزب الله" من الضربة التي تلقاها من إسرائيل، فمع انكفاء إيران وقطع طريق الإمداد عبر سوريا، جُعِل "حزب الله" في وضعية إرباك شديدة، ستظهر تداعياتها الكبرى في المقبل من الأيام.
أما لبنانيًا فهناك أثقال سَقطت عن كاهل البلد، الذي عانى كدولة من محاولات مستمرة من جانب تحالف "حزب الله" والنظام السوري لإضعافها وتهميشها، كي يبقى لبنان ساحة مفتوحة خارج القانون والنظام، إلا قانون الميليشيا والوصاية.
خلاصة الانهيار السوري لبنانيًا، أنه يستتبع معه انهيارًا مرتقبًا لشبكة الفساد السياسي، التي كانت تتغذّى وتستند إلى شبكة متّصلة بها، في بنية النظام السوري المخلوع، كان تحالف الفساد بين البلدين، مُساهمًا أساسيًا في ما وصل إليه البلدان، مِن حال انهيار مالي واقتصادي وعُزلة عربية ودولية.
يبقى أن التحديات التي تَفرض نفسها على إدارة الحكم الحالية في سوريا، في إعادة بناء السلطة وتكوين الدولة الجديد، تسير حتى الآن بخطى إيجابية، يساعد في ذلك أن الحاجة لاستقرار سوريا، باتَت حاجة عربية ودولية، وهذا ما يجعل اللبنانيين متفائلين، بأن استقرار سوريا وقيام دولة تحترم الحريّات وتنبذ الاستبداد، هي فرصة تاريخية لبدء نهضة لبنان الحديثة.