ما بَعد سياسات "النيكرو": تَمَوضُع الشّباب في عَمَليّة إِنتاج السّياسات المُضادّة

لم تَكن هذه الصدمة الأولى التي يتعرّض لها الفلسطينيون بكلّ تأكيد، فمنذ العام 1948 كانت النكبة الحدث الذي تمّ توريث مشاعر الصدمة والخذلان عبره إلى الأجيال الفلسطينية اللاحقة. في كلّ المجتمعات التي تمرّ بصدمات جماعيّة عميقة، يكون الشباب أكثر المتأثّرين، إذ يَحمل الشباب ذاكرة ما يحدُث حتى الممات، ويَحمل همّ المستقبل الذي يُصاحب الأجيال التي تليه ومسؤوليّته تجاه الأجيال الأكبر. لذا تجدهم ينشطون في حقول متعدّدة بعد فترة زمنية من أيّ حدث من الممكن وصفه بالكارثي على صعيد المجتمع.

في الحالة الفلسطينية، لا سيّما بعد حرب الإبادة الجمعية المستمرة على الفلسطينيين منذ أكتوبر 2023، في قطاع غزة وبالمناسبة في الضفة الغربية أيضًا، أصبح من المستحيل الحديث عن "تحدّيات الشباب" خارج إطار الإبادة الجماعية، تلك التي لم تعد مجازًا سياسيًا، ولا حديثًا يمكن الإحكام عليه بِسَيل من التنظير، بل باتت تحدّيات بحاجة إلى ما هو ملموس، إلى سياسات تُعيد بناء ذواتهم بعد ممارسة سياسات الموت عليهم.

يَنطلق هذا المقال من مفهوم "سياسات الموت" وصولًا إلى السّياسات المقاومة لذلك.  وسّع كلّ من جورجيو أغامبن وروبرتو إسبوزيتو ملاحظات فوكو من خلال مفهومي "الإنسان المقدَّس" (homo sacer) و "سياسات الموت"  (thanatopolitics)، مشيرين، كلٌّ بطريقته، إلى الحقّ السيادي في القتل دون عقاب، وإلى التبريرات البيولوجية/ المرَضيّة لإبادة البشر. أمّا أشيل مبيمبي، فقد قدّم مقاربة جديدة من خلال مفهوم النيكروسياسة (سياسات النيكرو)، مستندًا إلى فوكو من جهة، وإلى مقاربة تفكيكية استعمارية من جهة أخرى (غالبًا ما تَستَلهم فرانز فانون)، حيث يرى أن النيكروسياسة تمثّل بناءً سياسيًّا للفضاءات والذوات على الحدّ الفاصل بين الحياة والموت، أيّ أنها تقرّر من يعيش ومن يموت بسياسة واضحة تنفَّذ على أرض الواقع، مع الأخذ بعين الاعتبار أن الأدوار تتبدّل وقد تتغير معايير الاختيار مع مرور الوقت.

تعتبر هذه السياسة ممارسة على الفلسطينيين من المنظومة الاستعمارية منذ العام 1948، إلا أن حرب الإبادة نَقَلت سياسة الموت من تَعبير سياسي اجتماعي إلى أعلى أشكاله الهرميّة التي قد تصل إليها هذه السياسة، وهي الإبادة الجماعية. وكما نعلَم ونشهَد، فإن الإبادة الجماعيّة تتفرّع لتشمل أشكالًا متعدّدة تحت مظلّتها: الإبادة العرقيّة، والإبادة الثقافية، والإبادة البيئية، والإبادة الصحيّة، والإبادة الإنجابيّة... إلخ. وهو تمامًا ما فعلته "إسرائيل" في الأشهر العشرين الأخيرة على الأقل.

تشير البيانات المحدّثة من الجهاز الإحصائي الفلسطيني إلى أنه منذ السابع من أكتوبر 2023، استشهد 59,038 شخصًا في قطاع غزة والضفة الغربية حتى تاريخ 13 تموز 2025، غالبيتهم العظمى في قطاع غزة، بالإضافة إلى أن أكثر من 173 ألف مبنى كان قد دمر بشكل كامل أو جزئي (مدارس، مستشفيات، مساكن... إلخ)، ووصل عدد النازحين نحو 2 مليون نازح في قطاع غزة، بالإضافة إلى أكثر 44 ألف نازح في شمال الضفة الغربية. ووصلت حالات الاعتقال إلى أكثر من 18 ألف حالة، ثُلُثيهم من الضفة الغربية.

وفي العودة لأشكال الإبادة، فإنه علينا أن نَفهم أن المقصود بهذه الوحشيّة هو أن تدمرّ أيّ قدرة فلسطينية مدنيّة ورسميّة على بناء سياسات مستقبلية، وتدمير ما تمت مراكمته في السابق، أي خنق الوعي الجمعي الفلسطيني اليافع. تُدرك منظومة الاستعمار مثلًا ما يعنيه أن يحتفظ الفلسطينيون بمدارسهم، وجامعاتهم، ومراكزهم البحثية، وومساحاتهم الحرّة للتفكير. لذا شهدت الحرب تدميرًا ممنهجًا لمؤسسات التعليم العالي في غزة، بالإضافة إلى الممارسات المقصودة لتغييب الطلاب عن صفوفهم في الضفة الغربية، لنجد أن الفاقد التعليمي وصل درجات عالية، وأساتذة قُتلوا واعتقلوا أو شُردوا، ما يؤسس لفراغ معرفيّ قد يمتد لأجيال.

أما بخصوص الإبادة الصحيّة، فقد ركزت "إسرائيل" في حرب الإبادة على قطاع غزة على تدمير البنية الصحيّة بشكل شبه كامل، وهي المسألة التي تَعني بأبعادها أن العلاج ليس حقًا للفلسطيني، حتى في ظلّ الإبادة، وأن المشفى هو جسد يمثّل امتدادًا لحياة الفلسطينيين، لذا لا بد من الإجهاز عليه. 

هذا يندرج أيضًا الحديث على الإبادة الإنجابية مثلًا. كانت مؤسسة "مفتاح" قد أصدرت تقريرًا مبنيًّا على شهادات مشفوعة بالقسم، تبين الاستهداف المباشر للطفولة المبكّرة ومراكز الإخصاب والمراكز الصحّية الخاصة بذلك. يكشف هذا الشّكل من أشكال الإبادة السياسة الإجرامية التي تَرمي إلى تغيير الواقع الديمغرافي لدى الفلسطينيين، بالإضافة إلى حَمل الأعباء الصحيّة الناجمة عن هذا الشكل من أشكال الإبادة.

لم يَعُد هنالك في قطاع غزة سوى 4% من الأراضي الزراعية صالحة للزراعة، ألقت "إسرائيل" عشرات الأطنان من القنابل التي أدت إلى إبادة بيئية شاملة في القطاع، إعادة تشكيل طبوغرافيا بطابع رمادي، تلوّث الهواء والماء، وانهيار البنية البيئية في قطاع غزة، شكّلت شروطًا قاتلة لحياة الإنسان الفلسطيني، لا سيّما الشباب، الذين فقدوا بيئهم، وبالتّالي فَقَدوا قُدرَتَهم على الإنتاج وعلاقتهم بالأرض، أضف إلى ذلك الأبعاد الصحّية المترتبة عليه. هذا لا يقتصر على قطاع غزة، بل على الضفة الغربية أيضًا، التي تُعتبر في أجزاء واسعة منها مكبّات نفايات للمستعمرات المنتشرة على خارطة الضفة الغربية، بالإضافة إلى المستعمرات الصناعيّة، ومصادرة الأراضي الزراعية وحَرقها من قطعان المستوطنين.

كما أن "إسرائيل" كانت قد استخدمت أهم عنصرَين للبقاء على قيد الحياة سلاحًا في قطاع غزة، وهما الغذاء والمياه، وهي مسألة تعيد للأذهان فكرة نعومي كلاين في ما يتعلّق بصهر الوعي الجمعي، ليصل إلى المرحلة الجنينية، التي لا يستطيع فيها التّفكير خارج إطار الاحتياج الأساسي. بمعنى أو بآخر، دمّرت "إسرائيل" هرم "مازلو" في البنية الفلسطينية، وأبقت على قاعدة رفيعة جدًا في الاحتياجات الأساسية منه، وعوّدته على ذلك حتى لا يرفع رأسه لأعلى الهرم.

في المقابل، في هذه الحرب، يراقب الشباب الفلسطيني كلّ ما يحدث، ويتأمّل جزء واسع منهم ما الذي فَعَلَته منظومة الاستعمار، ما هي السياسة التي مورست، والتي يعتبر جزء منها إعادة تشكيل الوعي بطريقة مصهورة تمامًا، تكون فيها "إسرائيل" لها اليد العُليا في حياة الفلسطيني أو موته، وهي الممارسة الأساسية لسياسات الموت، أو النيكروسياسة.

كما ذكرنا سابقًا، لم تكن هذه الأولى، ربما هي الأقسى لكنها ليست الأولى، وعقب كلّ صدمة يراجع المجتمع ذاته، تحديدًا الشباب، ويتّجهون لتشكيل سياسات واعية وغير واعية في الحقول المختلفة. يَبقى على مَن يُطلق عليهم النخبة والأكاديمين والنشطاء السياسيين والفاعلين في المجتمع، حتى المكوّنات القطاعيّة في المجتمع من قطاع خاص ومجتمع مدني وحكومي إذا ما كان لديه القدرة، أن يعمل على توجيه السّياسات الشبابية وفقًا للأولويات التي يرونها:

إعادة بناء الذّات الشبابيّة في مواجهة سياسات الموت

بدايةً، علينا أن نعترف أن جزءًا من تنفيذ سياسات الموت هو استهداف الوعي الجمعي للشباب، وهو جزء أساسي في حرب الإبادة التي يمارسها الاستعمار على الفلسطينيين. يأتي لاحقًا الدّفع باتجاه بناء سياسات مشاركة مع الشّباب الفلسطيني وحقّهم في تقرير المصير، مع الأخذ بعين الاعتبار أثر الصدمة الجماعية في قطاع غزة والضفة الغربية.

إعادة الاعتبار للعِلم والمعرفة والتخصصيّة

كشفت حرب الإبادة أن توجيه الشباب لا بد أن يكون تجاه التعليم، الأكاديمي والمهني، تحديدًا أن المال في كثير من الأحيان لم ينفع في أوقات الجوع، وأن تركيز "إسرائيل" على اغتيال الكوادر الطبّية والزراعية والهندسية بشكل عالٍ، هو لإرجاع المجتمع إلى الخَلف وتقييده، حتى لا يجد أيّ حلول في ظلّ شلل المؤسسات الرسميّة ومراكز المسؤولية، سواء على صعيد الصحة والطاقة وغيرها من القطاعات الأساسية التي تأثرت وتبيّنَت أهميّتها في الحروب.

السيادة على الغذاء كمفهوم وطني

في ظلّ استخدام التجويع كأداة حرب وعقاب، وفي ظلّ مصائد الموت التي يُطلَق عليها "مراكز توزيع المساعدات"، يعود مفهوم السيادة على الغذاء كممارسة إنتاجية أساسيّة ووطنية لمبدأ الصمود الذي على الفلسطينيين أن يتبنّوه في حالة الدفاع التي يعيشونها.

تفعيل المشارَكة السياسيّة والفكريّة للشباب (إعادة الوعي السياسيّ)

لا يُمكن الإبقاء على حالة الإقصاء التي يعيشها الشباب الفلسطيني منذ الانقسام، بكلّ الأحوال لا يمكن لأيّ حركة اجتماعية أو شبابيّة أن تنطلق دون وجود أحزاب سياسية، ببرامج وطنية، يشارك في صياغتها الشباب وينفذها الشباب أيضًا كقاعدة فاعلة على الأرض. يجب العمل على إشراك الشباب في العمليّة السياسيّة بل وبنائها وفقًا لمنظورهم للمستقبل.

عبد العزيز الصالحي

باحث في حقل العلوم الاجتماعية والإنسانية. مسؤول وحدة البحث في مؤسسة مفتاح.

رأيك يهمنا