الشّباب الفِلَسطينيّ: ثلاث صُوَر للذّات المُستحيلة في زَمن المَذبحة

وُلِد الفتى يوسف الزقّ عام 2008 في السّجن، وقُتِل في الحرب في 12 تمّوز 2025 بصاروخ قَصف بيتَه في خان يونس. 17 سنة في بطن الحوت الاستعماريّ. 17 سنة من حياة مكبّلة ومُجوّعة ومعطّشة جسداً ونفساً وحُلُماً، حياة فلسطينيّة مولودة خارج رحمَ عالمٍ لا يعترف بولادتها ولا بموتها، محرومة من بداية تؤنسنُها ومن نهاية تعيد إليها بعضاً من كرامتها. كـأنها برزخ جحيميّ بين غياب وغياب. كأنها لم تبدأ. مقطوعة عن موادها الأولى: سماء حرّة تسمّيها، وهواء حرّ يتنفسّها، عائلة تحتفل بها، لغة تقرؤها وتكتبها، وذاكرة تسجّلها وترويها. حياة هي كنايةٌ جارحة للذات الفلسطينيّة في صِباها: دقٌّ مستمرّ، بأيدٍ مقطوعة، على جدرانِ خزّانٍ مُعتمٍ يختنق فيه الحاضر والمستقبل. والشّوق الإنسانيّ.
لم تكن النّكبة يوماً لحظةً تاريخيّةً عابرة، وإنّما زمنٌ صدميٌّ تقيم فيه الحياة الفلسطينية، ويتغذّى عليه الجنون الاستعماريّ الذي لا يرعوي عن قتل كلّ شيء. إلإنسان والمكان والوقت. دون حُرمةٍ لطفولةِ الحياة أو لِيَفاعَتِها. يولدُ الطّفل الفلسطينيّ، أوْ لا يولدُ، في قبضة استعمارٍ استيطانيّ عنيف، ويكبُر، حين يتاح له أن يكبُر، على ايقاع القمع، والتقتيل، والتهجير، والحِصار، والاعتقال، والعنصريّة واللاأنسنة. يعيش الشباب الفلسطينيّ، على اختلاف سياقات ومستويات العنف والإماتة التي تمارس ضدّه، تحت منظومة تعكف على اجتياح جسده، وتفكيك ذاته، وزعزعة هويّته، وانتماءاته. لا يخفي المستعمِر رغبته في هندسة الجسد الفلسطينيّ عبر تهديمه وتجويعه وتفريغه من رغباته ومعانيه، لكنه يواجه ذاتاً تنسج من أشلائها جغرافيا موازية، ومن هشاشتها القصوى رغبةً مذهلة في الحياة، رغم الفقد والموت والحداد اللانهائيّ، والمكان المُكسّر والمُعَسْكَر، والزمَن المُمزّق الذي يحول دون تدفّق الحياة وتشكّلها عبر مراحل نمّوها الطبيعيّ.
تَستنزفُ ثُنائيّةُ الموت والمقاومة الذاتَ الفلسطينيّةَ الشابّة وتضعُها أمام خياراتٍ مستحيلة، لكنّها تفتح في المقابل آفاقاً للبقاء والإبداع الثقافيّ والوجوديّ.
في غزة، يواجه الشباب واقعاً صدميّاً صاعقاً تَختزل فيه الآلة العسكريّة والإعلاميّة الإسرائيليّة الحياة الفلسطيّنية إلى حياةٍ عاريةٍ والجسد الفلسطينيّ إلى حالة انتظار للموت، في الوقت الذي تقوّض فيه النظام الرمزي الذي تنهض عليه الحياة الإنسانيّة: الحرّية، العدالة، القانون، الأخلاق، الكرامة، الطفولة، العائلة، الأمان، الحبّ، التعليم، المستقبل. يصبح التجويع سلاحاً لإفناء النّفس والرغبة وتكريس قطيعة ذهانيّة مع الواقع. ومع ذلك، حتى داخل هذا المشهد الذي يشبه نهاية العالم، يبتكر الشّباب أشكالاً جديدة للبقاء والكلام والتكافل الاجتماعي وتوثيق الكارثة عبر وسائل التواصل المختلفة، والتجذّر الحسيّ والنفسيّ العميق في الأرض. وصيانة المعنى. والحبّ، الكثير من الحب للبلاد.
في الضفة الغربية يرى الشباب ما حلّ بغزة في الوقت الذي يختبرون فيه على جلودهم تصاعد عنف الجيش والمستوطنين وممارسات الترويع وتهجير الناس وإجبارهم على الخضوع. يعيشون ذاتيّةً مكبّلة بالابارتهايد والخوف من المستقبل والحياة المؤجّلة في ظل ما يعتري "اسم الأب"، أي المرجعيّة السياسية والأخلاقية، من ضعفٍ شديد. لكنّهم لم يكفّوا عن الانخراط في المقاومة الثقافية وتجذير البقاء وحماية الذاكرة وتطوير الهويّة وتحريرها رقميّاً من الحدود الجيوسياسيّة المفروضة عليهم.
يعيش الشباب الفلسطيني في إسرائيل ربمّا الانقسام الأكثر فصاميّةً: تُفاقمُ "الحربُ" والخطاب العُنصريّ المُشرعَن عبر قانون "الدّولة القوميّة" وقوانين عديدة أخرى، من المفارقة الوجوديّة التي التي تلقي بثقلها الهائل على عالمهم الخارجي والدّاخلي: "مواطنون" و"أعداء". يشهدون تدمير غزّة وتجويعَها وتهجيرَها ويُجبرون في الوقت ذاته على المشاركة في النظام الرمزّي الذي يُمارس هذا التدمير والتهجير والتجويع، وعلى التعايش مع العنف العنصريّ والجريمة المستشرية والمثيرة لأكثر من تساؤل حول أسبابها وأهدافها. هي صورة أخرى لذاتٍ مستحيلة ومحاصَرة لا يمكن التحرّر منها إلاّ من خلال التماهي مع القاهر، أو الصمت أو الكلمة التي تتحدّى المحو والإسكات وتتمسّك بإنسانيّتها وبرغبتها.
في كلّ السّياقات، يَعملُ خطاب اللاأنسنة والتفوّق العرقي ورفض الوجود الفلسطينيّ كصَدمة مُؤسِّسة تنتج ذواتًا لا تجد لها مكانًا في النظّام الرمزيّ السائد، لكنّ الذات الفلسطينيّة الشابّة تواصل حفر رغبتها في الأرض وفي الهواء وترميم الروابط الرمزيّة مع الحياة، واللغة، والحبّ، والمستقبل.
لا يمكن للتحليل النفسيّ (والعلاج النّفسي بشكل عام) في السياق الفلسطينيّ إلّا أن يكون فعل مقاومة رمزيّة ضد استعمار الذات ومصادرة صوتها، ومساحةً للتاريخ الفرديّ وسط صخب التاريخ الجماعيّ، وحيّزاً للرّغبة وسط ثقافة الموت. الرّهان ليس فقط على "علاج" الشباب، بل على تمكينهم من ممارسة إنسانيّتهم الكاملة: الحقّ في الكلام، والحلم، والحياة.
واليوم يذكّرنا الحراك الشبابيّ العالميّ أن فلسطين لم تعد مجرد وطن مُحتل، بل اسم دامٍ ومضيء لكرامةٍ إنسانيّة تُهْدَر لكنّها لا تُهزم، ولحرّية تُجَوّع لكنّها لا تموت.
