الترجمة - جسر الأدباء للسفر بين الثقافات

ارتأينا في نشرة أيلول 2023، التي اخترنا أن نخصصها لموضوع الثقافة، أن نسلط الضوء على موضوع الترجمة، بحكم كون الترجمة وسيلة تواصل وتفاهم بين الثقافات والشعوب المختلفة، وقاطرة للتقدم والنهضة وإنتاج المعرفة بكافة أشكالها. ومع أن هذا النشاط الثقافي ضارب في القِدم، إلا أن أهميته ازدادت بشكلٍ ملحوظ في العقود الأخيرة على مستوى العالم عموماً وفي عالمنا العربيّ على وجه الخصوص. في نشرتنا الحالية اخترنا أن نسلط الضوء على غيض من فيض النماذج المحلية لكي نستقي بعض العبر من روّادها في مشهدنا الثقافي في أراضي الـ 48.

لنبدأ مع الأستاذ الأكاديميّ دكتور مصلح كناعنة

مصلح كناعنة

باحث ومحاضر في مجالي علم الإنسان وعلم النفس. حاصل على شهادة الدكتوراة بامتياز في علم الإنسان من جامعة بيرغن في النرويج وله خمسة كتب وأكثر من 30 مقالة بحثية منشورة في مجلات عربية وعالمية.

قال كناعنة: "الكتاب غير المُترجَم، لا يستفيد منه إلا المتكلمون بلغةِ تأليفه. فإذا تُرجم كتابًا إلى لغاتٍ أخرى، أتيحت محتوياته للمتكلمين بهذه اللغة. بالمقابل، فإن الثقافة التي لا تترجم الإنتاج الثقافيّ والمعرفيّ العالميّ إلى لغتها تتقوقع على نفسها فلا تعرف إلا ذاتها. فالترجمة هي وسيلة للتعرُّف على عوالم ثقافية وفكرية أخرى، وللتعلُّم واكتساب الخبرة من الآخرين. ولقد تعلمنا من التاريخ أن الشعوب حين تكون في أوج ازدهارها وعنفوانها وثقتها بالنفس تُكثِر من ترجمة المؤلفات إلى لغتها، أما الشعوب التي تكون في حضيض انحطاطها وضعفها وانعدام ثقتها بالنفس فتكاد تتوقف كلياً عن الترجمة، لا بل تنتفض رعباً وغضباً كلما تسرَّب إلى لغتها كتاب جديد". 

وأضاف "حيث أنَّ الكتب ليست لزيادة المعلومات وتراكم المعرفة فحسب وإنما لتحسين أسلوب التفكير والسلوك من خلال التعرّف على الآخر ومعايشة تجاربهِ وفهم وسائله في حل المشكلات والتغلب على الصعوبات، إذ أن الاطِّلاع على الكتب المترجَمة هي الوسيلة الأفضل لاكتساب الحكمة والخبرة من الآخرين، ولتطعيم الثقافة في زبدة ما حققته الثقافات الأخرى من الحكمة والحنكة وفن العيش في هذا العالم. ولعله من نافلة القول أن نؤكد على أن ما يكتسبه المرء من الأعمال المترجمة ليس المعلومات والحقائق فحسب وإنما منظومات من القيم والأحكام والمعايير، ومن الطباع والنزعات، ومن العواطف والأحاسيس، ومن المخيالات والفنون، ومن كنوز التراث الشعبي بمختلف أشكاله".

ثمّ أكّد على أن "الترجمة ليست مجرد استبدال كلمات أو جمل في لغة بكلمات أو جمل في لغة أخرى، بل هي إعادة صياغة وإبداعٌ في الإنشاء والخلق من جديد. ولذا فإنَّ من يقوم بالترجمة يجب أن يكون متمكنًا من اللغة المترجَم منها وفي الوقت نفسهِ ضليعًا ومتمرسًا في اللغة المترجَم إليها بحيث يعيد صياغة المحتوى المُترجَم في مبانٍ لغوية تحافظ على الأصول اللغوية والجماليات الإنشائية للغة المترجَم إليها من حيث أساليب التعبير وأنماط السرد اللغوي وقواعد الربط أو التقطيع بين العبارات والجُمل. وكم من ترجمة تكون فاشلة قبيحة لا يُستفاد منها لأن من قام بها كان متمكنًا من لغة الأصل، ولكنه كان ضعيفًا تعيسًا في اللغة المترجَم إليها. والترجمة لا يمكن أبدا أن تكون ترجمة لغوية محض، وإنما هي دائمًا وأبدًا ترجمة ثقافية فكرية إدراكية، فنحن نترجم قِيما ومُسَلمات وأفكارا ومفاهيم، ومنظومات إدراكية جمعية تراكمت ونضجت عبر الأجيال في مكان محدد وبيئة محددة وظروف تاريخية محددة. وعليه فإنه من الضروري أن يكون المترجم متمكنًا ليس من اللغتين فحسب وإنما من الثقافتين في الأساس، مع العلم بأن التمكّن من أية ثقافة لا يتأتّى إلا من خلال الاندماج الفعلي في هذه الثقافة ومعايشتها التفاعلية العميقة من الداخل".

وخلصَ إلى "نحنُ لا نبالغ حين نقول أنّ الترجمة غالبًا ما تكون أصعب على النفس من التأليف، فالمترجِم هو بحُكم عمله واقعٌ في مأزق، حيث إن الترجمة هي دائماً مشيٌ على الحبل المشدود بين المؤلف الأجنبي والقارئ المحلي؛ بين مَطلَب الأمانة للنص في اللغة الأصلية ومَطلَب توصيل المضمون والرسالة والنكهة الأدبية إلى القارئ باللغة المترجَم إليها، وعلى من يقوم بالترجمة أن يحافظ على توازنه بين هذين القطبين ومن ثم الهبوط بسلام على أرض يرضى عنه فيها كل من المؤلف والقارئ في نفس الوقت. وأقصى ما يمكن أن يطمح إليه المترجم الجادّ هو أن تكون الترجمة على قدر من المتانة والسلاسة والجمال والإمتاع بحيث ينسى القارئ الترجمة والمترجم فيقرأ الكتاب كما لو كانت لغة تأليفه في الأصل".

من بين أعمال د. مصلح كناعنة: 

ترجمة

تنقيح وإشراف لغوي

"التغيير الاجتماعي والتوافق النفسي" - ترجمة و"الوجع الدفين" - تنقيح وإشراف لغوي

نقد وتقييمنقد وتقييمنقد وتقييم

"مجرد أنثى" و"العربية السعيدة" و"خيرة أولاد الله" - نقد وتقييم

ثمّ لنتعرّف على سوسن كردوش- قسيس

سوسن كردوش قسيس

حاصلة على القب الأول في الأدب الإنجليزي وتاريخ الفنون من الجامعة العبرية في القدس واللقب الثاني في الأدب العربي من جامعة حيفا. تقيم في الدنمارك منذ ثلاثة عقود، حيث أسست "البيت الفلسطيني" سنة 2006، وفي سنة 2011 بدأت العمل على ترجمة الأدب الدنماركي إلى العربية. ترجمت حتى الآن سبعة كتب تتناول الرواية والسيرة الذاتية، من ضمنها كتاب للاطفال وآخر سيصدر في نهاية هذا العام. كما ترجمت حتى الآن كتابًا واحدًا عن الإنجليزية بعنوان "الوجع الدفين" للدكتور حاتم كناعنة.

قالت السيدة سوسن كردوش- قسيس: "نقل العمل الأدبي من لغةٍ إلى أخرى يساهم في التعريف متعدّد الأبعاد على المجتمع الذي أنتج ذلك العمل، مما يتطلّب الحرص على الدقّة في النقل والدراسة المتأنية لخصائص ذلك المجتمع. من اللافت أن الدنمارك كانت إحدى أولى الدول التي أرسلت البعثات الاستكشافية إلى منطقتنا، ولا تزال تنشط في مجال ترجمة ودراسة ورصد المتغيرات الاجتماعية والسياسية في المنطقة عبر المؤسسات المختلفة. بالمقابل، لا تزال معرفتنا بهذا الجزء من العالم، متواضعة، مما يجعلنا في غفلة عن إسهاماته على أكثر من صعيد. ميزة العمل الأدبي أنه يُكتب للاستهلاك المحليّ في الأساس، والاطلاع عليه يوفّر للقارئ نافذة تُطلعه على حياة وفكر وممارسات ذلك المجتمع، دون رتوش".

من بين أعمال سوسن كردوش - قسيس:

مجرد أنثى

مجرد أنثى

يتناول هذا الكتاب سيرة حياة ليزا نورغورد التي ولدت سنة 1917، أي في السنة التي وُلدت فيها الصحفية والكاتبة الفلسطينية، فدوى طوقان. لم تُستقبل أي منهما بالترحاب لكونها أنثى، وقد وصفت كلاهما هذا الرفض بنفس الكلمات تقريبًا. لا تزال ليزا نورغورد على قيد الحياة حتى يومنا هذا (2021) وقد تجاوزت 105 سنوات من العمر، وتعتبر مؤلفاتها وثيقة مهمة في الأدب والتاريخ الاجتماعي في الدنمارك، وعلى رأسها هذه المذكرات التي اعتُمدت لتأليف مسلسلين طويلين عن الحياة في الدنمارك في القرن العشرين. تمتاز بأسلوبها الساخر والشفافية في الوصف، إن كان ذلك في وصف العائلة وفضائحها أو الحيّ والمدرسة والمؤسسة السياسية أو الدينية، وذلك بأسلوب لطيف وشائق.  

العربية السعيدة

العربية السعيدة

هي رواية حيكت من خيوط الواقع الذي يصور رحلة قام بها خمسة من المختصين في مجالات مختلفة، تجمعوا من أرقى جامعات السويد وألمانيا والدنمارك، وأُرسلوا إلى المشرق لاكتشافه، وذلك بتمويل من ملك الدنمارك، فردريك الخامس. كانت هذه هي الرحلة الأولى من نوعها، واستمرت من 1767- 1771. اعتمد العالم نتائج هذه الرحلة على مدى القرنين التاليين، ولاتزال الدنمارك والسويد تحتفيان بهذه الرحلة في كل مناسبة. استقى توركِل هانسن، كاتب الرواية، المعلومات من يوميات الرحالة والأرشيفات، ليصيغ منها رواية تقارب الواقع حتى تكاد تلامسه، كما يتبين عند مقارنة الرواية باليوميات التي تركها الرحالة. أما بالنسبة لنا، فهي تنقلنا إلى بلاد المشرق من مصر إلى اليمن وعُمان ودول الخليج مرورًا بالبصرة وحلب ودمشق والقدس وعكا ثم نرافق بطل هذا الرواية بامتياز، كارستِن نيبور، في رحلته عائدًا إلى الدنمارك برًّا عبر شرق أوروبا. الرواية مزيج من المعلومات الجميلة والمكثفة التي تتناول مختلف جوانب الحياة في منطقتنا، وهي قصة تحدٍّ لمشاق السفر والاكتشاف، بأسلوب وصفيّ ساحر.

الدعسوقة والمطر

كتاب للأطفال، كُتب بأسلوب السجع، ويتناول عوامل الطبيعة كالعواصف والبرق والرعد والمطر وقوس قزح، وذلك الكائن الجميل الصغير وغير المؤذي، الدعسوقة، مستعيرًا من التراث والأغنية الشعبية ما يتوافق مع حكاية هذه الدعسوقة في مشوارها بين الأزهار والأمطار والأوحال، وصولا إلى بيت جدتها.

الغيلم الذي أراد أن يتسلق جبل إيفرست

الغيلم الذي أراد أن يتسلق جبل إيفرست

هي قصة للأطفال تتناول الغيلم "مهران"، الذي أراد أن يتحدى الصعاب لكي يحقق أمنية جدّه، لكنه يكتشف في طريقه أن التحدي هو تحديه هو في الواقع. القصة تعرّف الطفل على حيوانات حقيقة موجودة في آسيا ومحيط الهملايا، وترافقه وصولاً إلى قمة الجبل. لكن الأهم من ذلك هو أنها تحثّ أي طفل أو بالغ على حكمة تحديد هدفه هو، دون الالتفات إلى العوائق التي يضعها الآخرون، والصبر من أجل تحقيق ذلك لهدف، ولو سار العمل ببطء السلحفاة، وتحقق خطوة خطوة. (ملاحظة: تبنّت مكتبة الفانوس هذا الكتاب).

خيرة أولاد الله

خيرة أولاد الله

تدور أحداث هذه الرواية في جزيرة أماير المحاذية للعاصمة الدنماركية، كوبنهاغن، وتتناول حياة الشباب الذين يعانون من التفكك الأسري والظروف الاقتصادية والاجتماعية الصعبة، وكذلك حياة سكانها المهاجرين من منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا. سنة 2008، اعتدى ثلاثة شبان دنماركيون على شابين من أولاد الأجانب (تركي وعراقي)، وقُتل التركي. هذا الحدث الذي أثار صدمة في الدنمارك، هو ما تعتمده الرواية لتنطلق منه وتصف عالم الجريمة والمخدرات والعنصرية، وتغوص في أعماق هؤلاء الشباب وأسرهم في محاولة للكشف عما يكمن وراء هذه الظاهرة. كُتبت الرواية بأسلوب حذق يعكس بصيرة الكاتب الذي خرج من رحم هذه البيئة وعانى هو نفسه من آفاتها، لكنه نجح في تجاوز التحديات إذ تعلم كتابة سيناريو الأفلام السينمائية وألف كتابين، "الخطة" سنة 2015 و"خيرة أولاد الله" سنة 2018 وله كتاب ثالث سيصدر في خريف 2021.  

الوجع الدفين

الوجع الدفين

هي مجموعة من الحكايات التي يرويها طبيب من الجليل درس في الولايات المتحدة ومارس مهنة الطب، ثم عكف على الكتابة والتأليف بعد تقاعده. يروي الكاتب، الدكتور حاتم كناعنة، من خلال هذه الحكايات التي نسجها من قصص شخصيات واقعية يذكرها بالأسماء ولكل شخصية قصتها المستقلة، وأخرى هي عبارة عن خلط عدة شخصيات لها ملامح من الواقع، عبّر من خلالها عن مجموعة من القضايا وقد وضعها في إطار قصة شخصية واحدة مُختلقة أو أكثر في نفس القصة لكي يعكس قضايا وأوجاع دفينة حدث ما يشبهها على أرض الواقع نتيجة عدة عوامل، أهمها الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي أثرت عميقًا على من بقي على تراب وطنه من أبناء شعبنا. يعرّفنا الكاتب على معتقدات عدة وعادات تراثية من البيئة الشعبية في قرى الجليل عبر قرن من الزمان، منذ "السفربرلك" والإنكليز ومن ثم الحركة الصهيونية التي قلبت حال المجتمع وحولت الفلاحين وأصحاب الأرض إلى عمال لديها من ناحية، ومن ناحيةٍ أخرى إلى متعلمين نجحوا في تحدي جميع العوائق وبكل الطرق الممكنة.

نساء الملك

نساء الملك

تتناول الرواية النساء في حياة الملك الدنماركي الأطول حُكمًا والأغزر إنتاجًا، سوءا على صعيد بناء المدن والقلاع والقصور والاهتمام بالموسيقى وخوض الحروب، أو على صعيد إنجاب الأطفال الذين بلغ عددهم أكثر من عشرين من نساء تجاوز عددهنّ الخمس، بين زوجات وعشيقات. لكن الكاتبة تختار أن تصف حياة الملك في الكواليس، ومن وجهة نظر النساء الثلاث الأقوى في حياته: حماته (إيلين)، وزوجته الثانية (كيرستِن)، ووصيفتها (فيبيكا)، وقد خاضت هذه أيضًا علاقة مميزة مع الملك. جدير بالذكر أن تلك الفترة القرن السابع عشر، اعتبرت فترة القضاء على "الساحرات"، والتي اعتقد الملك الدنماركي بوجودهنّ وحاربهنّ، كما فعل صهره جيمز، ملك إنجلترا (وقد تطرق شكسبير لهذه القضية في مسرحية "هاملت").  

هل تصبح عينا راني مربعتين؟

هل تصبح عينا راني مربعتين؟

قصة للأطفال تتناول انشغال الطفل بالشاشات وتململه من ممارسة أية فعالية أخرى يقترحها عليه والده. لكن حين يقترح عليه الوالد أن يرسم، يوافق الولد، ليجد الأب أن الابن قد رسمه بعينين مربعتين، لأنه يظهر لابنه دائمًا من خلف شاشة الهاتف المحمول. يقرر الأب أن يصحب ابنه في مشوار مشي، دون أخذ الهاتف، فما الذي يستحق التصوير في مشوار مشي؟ وهنا، يصدف أن تمر بهم مجموعة حيوانات فارّة من حديقة الحيوانات، كانت الأخبار العاجلة قد نقلتها عبر شاشة التلفزيون. لكن غرق كلٍّ بشاشته حوّل الخبر إلى فكرة مجرّدة غير محسوسة، بينما أعاد مشوار المشي البسيط العلاقة بين الطفل ووالده بالواقع الذي يجري حولهما. (ملاحظة: تبنّت مكتبة الفانوس هذا الكتاب).

وأخيرًا الكاتب دكتور نبيل طنوس

د. نبيل طنوس

كاتب وباحث ومترجم. من قرية المغار في الجليل. حاصل على اللقب الأول باللغة العبرية والتاريخ واللقب الثاني بالإدارة التربوية من الجامعة العبرية في القدس كما حصل على شهادةِ الدكتوراة في التربية. عَمل َمدرسًا للغة العبرية ومحاضرًا للتربية في الكلية الأكاديمية العربية للتربية في حيفا. له 14 كتابًا لتدريس اللغة العبرية ونشر حوالي 50 بحثًا في النقد الأدبي والتربية. وأصدر أطروحة الدكتوراة في كتاب: "التربية الاجتماعية اللامنهجية كعامل مُحسّن للتحصيل العلمي"، عن مسار للأبحاث التربوية. وأصدر حتى الآن سبعة كتب في الشعر العربي المترجم إلى العبرية لشعراء فلسطينيين في اسرائيل. قال الكاتب نبيل طنّوس: "أومن بأنّ الفنون عامّة: النثر، الشعر، الغناء، الرسم، المسرح وغيرها تستطيع أن تكون جسورًا للتعايش المشترك بين فئات المجتمع شريطة ألّا تكون بوقا لإثارة العنصرية والتحريض".

ما هي الترجمة إذًا؟

 هل نعتبر الترجمة عمليّة ميكانيكية أم أنّها عمليّة تحتاج إلى قدرات معيّنة؟ الترجمة هي عمليّة نقل نصّ أصليّ، نسمّيه النصّ المصدر، من لغة إلى أخرى. وهي نقل لثقافة المصدر بما تحتويه من فكر وقيم واتّجاهات وأحاسيس ورغبات وصور حسّيّة وأمور أُخرى كثيرة. عملية الترجمة ليست مجرّد نقل الكلمات إلى معانيها باللّغة الأُخرى، إنّما هي نقل قواعد ونحو وبلاغة لغة إلى اللغة الأُخرى". 

تحدّث جورج ستاينر (1998)، عن ثلاثة جوانب في الترجمة:

  1. الترجمة الحرفية: وهي ترجمة الكلمة بالكلمة.

  2. الترجمة الحرّة: وهي ترجمة الدلالة بالدلالة.

  3. الترجمة الأمينة: وهي الترجمة الأمينة للمصدر وللمنقول إليه. وهذا النوع يحافظ على قواعد ونحو وبلاغة اللغة المصدر وينقلها بنفس المهنيّة إلى اللغة الأُخرى.

يعتبر الكثيرون الترجمة فنًّا مستقلًّا بذاته، وضرورة كونيّة من أجل التعايش الذي يعتمد على تفهّم الآخر من خلال تعلّم ثقافته من النثر والشعر والعقيدة وغيرها، من أجل تقريب الثقافات، وهو يمكّن بني البشر من التواصل والاستفادة من خبرات بعضهم البعض. تعتمد الترجمة على الإبداع والحسّ اللّغوي والقدرة على اختراق أسرار اللغة بقواعدها ونحوها وبلاغتها، ومعرفة أمّهات الكتب في الثقافتين.

ولها الكثير من الأُسس: معرفة معجم الكلمات والعبارات ومعانيها، ومعرفة قواعد اللغتين ونحوهما، والصور والتشبيهات البلاغية، ومعرفة مقابلها في اللغة المنقول إليها. معرفة ثقافة اللغتين من أجل معرفة أيّ كلمة أو أيّ تعبير علينا أن نختار كي تتمّ عمليّة النقل وإظهار مواطن الجمال في اللغتين والقدرة في إيجاد الكلمات الملائمة والتي تعبّر عن مراد الكاتب المصدر، وكيفية نقل الحالة بشكل يستوعبها المتلقّي الجديد.

يقول الجاحظ في أهميّة الترجمة في كتاب "الحيوان" (1955): "ولا بد للترجمان من أنْ يكون بيانه في نفس الترجمة، في وزن علمه في نفس المعرفة، وينبغي أن يكون أعلم الناس باللغة المنقولة والمنقول إليها، حتّى يكون فيهما سواء وغاية، ومتى وجدناه أيضًا قد تكلّم بلسانين، علمنا أنّه قد أدخل الضيم عليهما؛ لأنّ كلّ واحدة من اللغتين تجذب الأخرى وتأخذ منها، وتعترض عليها، وكيف يكون تمكّن اللسان منهما مجتمعين فيه، كتمكّنه إذا انفرد بالواحدة، وإنمّا له قوّة واحدة، فإن تكلم بلغة واحدة استفرغت تلك القوّة عليهما، وكذلك إن تكلّم بأكثر من لغتين، وعلى حساب ذلك تكون الترجمة لجميع اللغات، وكلّما كان الباب من العلم أعسر وأضيق، والعلماء به أقلّ، كان أشدّ على المترجم، وأجدر أن يخطئ فيه، ولن تجد البتّة مترجمًا يفي بواحد من هؤلاء العلماء،" (نظرية الترجمة عند الجاحظ).

ومن ناحية أخرى مهمّة جاء في الحديث عن عبد الله بن عمرو بن العاص، أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قَال: "بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً، وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إسْرَائِيلَ وَلاَ حَرَجَ، وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّداً فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ" (رواه البخاري).

وما يؤكد هذا أن زيد بن ثابت الأنصاريّ الذي كان صحابيًّا مثقّفًا ومتفوّقًا في العلم والحكمة واللغات، فحين بدأ النبيُّ، صلى الله عليه وسلم في إبلاغ دعوته للعالم الخارجيّ، وإرسال كتبه لملوك الأرض وقياصرتها، أمر زيد أن يتعلّم بعض لغاتهم، فتعلّمها في وقت وجيز. وطلب منه: " تعلّمْ كتاب يهود، فإنّي ما آمنهم على كتابي". ففعل، فما مضى نصف شهر حتّى تعلّم لغتهم، فكان يكتب له إليهم، وإذا كتبوا إليه قرأ له". ثمّ طلب إليه الرسول أن يتعلّم "السريانيّة"، فتعلّمها في سبعة عشر يومًا. 

يقول محمّد عليّ اليوسفيّ في محاضرة له (نشرت بصفحته) تحت عنوان: "الترجمة بين الاجتهاد والخيانة" على أن "الترجمة تتمّ باتّجاهين، إمّا أن نترجم من لغة الآخر إلى لغتنا أو من لغتنا إلى لغة الآخر. أمّا بالنسبة لنا نحن، هل يترجمنا الآخر أم نحن نسعى إليه بأنفسنا ليقوم بترجمتنا؟ أم نقوم نحن بترجمة أنفسنا؟". إنّ الترجمة تعني حضور الكاتب في اللغة المترجمة، مثل نجيب محفوظ في اللغة الفرنسية، ونوال السعداوي موجودة وحاضرة ومقروءة.

وأعطى مثلاً بترجمات عبد اللطيف اللعبي لشعر محمود درويش، وترجمات أدونيس للشاعر سان جون بيرس، وفيها ظلال أدونيسية، بينما ترجمة شعر درويش، الذي يسكن بلاغته ويسكن بلاغة اللغة العربية، فإن ترجمته تفقد الكثير من شاعريته. والمهمّ في رأيي أن نفهم كيف نتوصّل للترجمة السليمة أو الأمينة القريبة من الأصل، منوّهاً بأنّ مسألة الترجمة لها علاقة بالذائقة الشخصية، ولا يكفي أن نجيد لغتين في حين أنّنا لا نجيد الحساسية في اللّغة الأمّ التي نترجم عنها.  وعن مقولة خيانة الترجمة أو عدم الدقّة أنّ الخيانة موجودة ولا بدّ منها، وفي الوقت نفسه أتساءل: "هل ننقطع عن الترجمة أم نعطي للآخر أن يترجمنا؟ ربما الخيانة في فهمنا هي الترجمة الحرفية وأقول بأنّني أحاول أن تكون الخيانة أقلّ ما يمكن.  وأوضح أنّ ترجمة الشعر من أصعب الترجمات، لأن الشعر يحشر، يرصّ، يكثّف، يكبس العالم داخل القصيدة. لكنني وجدت في ترجمتي للشعر متعة ترافقها المعاناة، لأنّه نصّ فيه فكر وأحاسيس ومجاز، وصور شعرية، وجمال خارق، ومدهش". 

قال الكاتب سلمان ناطور "الأدب هو الصندوق الأسود لكلّ شعب، ويجب التعرّف إلى الأدب أيضًا عن طريق الترجمة" خلال مؤتمر "الاجتماعي والسياسي في الترجمة" بمناسبة إصدار كتابه باللغة العبرية "ذاكرة"، موضحًا أنه يوجد نوعان من الترجمة: 1) ترجمة "قلم الاستخبارات": وهذه مهمّة كبيرة تنطلق من مفهوم "تعرّف على العدوّ". 2)الترجمة الثقافيّة: وهي في أيضًا ذات أبعاد سياسية. هذا النوع من الترجمة ينبع من منطلق أنّ النزاع ما زال مستمرًّا، وليس من منطلق التعرّف على العدوِّ لضربه أو للتغلّب عليه، إنّما من أجل إبراز جماليّة أدب الآخر.

هكذا يُسمع صوت المنهزم بالنكبة. هؤلاء الذين خافوا الحديث عن انهزامهم لسنوات عدّة بعد 1948. حقًّا ماتت أغلبيتهم، ولكن صوتهم يُسمع بالأدب. الأديب العبري يهوشوع في روايتهِ "العروس المنطلقة" قال على أنه "لا يوجد عندنا أيّ أمل لفهم العرب بشكل عقلانيّ، ولذلك لا مفرَّ إلّا أن نعود ونتعمّق بشعرهم، فأنت تستطيع أن تفهم أيّ شعب حسب الجوانب الإيحائية عنده؛ أي حسب شعره"، وفي هذا الصدد قال أوكتافيو باث (1993) "منذ البدء، يعتبر الشعر هو الأقلّ ملاءمة للترجمة، وما يثير الدهشة أنّ أفضل الشعر المترجم قام بترجمته شعراء كبار" عن كتابهِ "لقاء ومواجهة". على أية حال أعتبر ان ما أقوم به من ترجمة هو عمل ضروري، وبشكل شخصيّ أقول: "اعرفوني كما أُريد! وسأختار ما أُريد وأُترجمه بنفسي!"

من بين أعمال د. نبيل طنوس:


مصادر نص د. نبيل طنوس:

  • الجاحظ. (1955). كتاب الحيوان، تحقيق محمد عبد السلام هارون، دار الجيل، الجزء الأول، ص 75-79. نجد هذه الفقرة أيضا في:

  • مريم سلامة كار: ترجمة: عبد الحق لمسالمي مراجعة: مصطفى النحال http://www.aljabriabed.net/n10_10lamsalmi.htm

  1. مصدر باللغة الفرنسية:

  • Myriam Salama-Carr.(1990).Abaasside La Traduction a'  l'e'poque pp. 101-109. coll. Traductologie, n°6, Didier Erudition.

    1. اليوسفي، محمد علي. (2015). "الترجمة بين الاجتهاد والخيانة"، موقع "الإتحاد".22.5.2015 أبو ظبي http://www.alittihad.ae/details.php?id=49876&y=2015

    2. أوكتافيو باث. (1993). عن الترجمة في: نزيه خير (محرر) لقاء ومواجهة. حيفا

    3. أ.ب. يهوشوع. (2001) "العروس المنطلقة" رواية بالعبرية، إصدار هسفرياه هحدشاه. تل-ابيب. ص500

    4. سلمان ناطور. (2015). "الكاتب سلمان ناطور:الادب هو الصندوق الأسود لكل شعب"مقالة في موقع الحزب الشيوعي الإسرائيلي باللغة العبرية من يوم 24/10/2015. http://maki.org.il

    5. نبيل طنوس. (2001). أن نترجم الشعر. هل الأمر ممكنٌ؟ في مجلة مواقف العدد 28-29 أشرف على تحرير هذا العدد ب. فاروق مواسي

    6. مصدر باللغة الإنجليزية:

  • George Steiner. (1998). After Babel: Aspects of Language and Translation 3rd Edition. Oxford university press. U.K

شاركونا رأيكن.م