للنكبة زمن لم ينته بعد
في المؤتمر العالمي ضد العنصرية عام 2001، أشارت الدكتورة حنان عشراوي إلى مصطلح النكبة المستمرة، وعلى الرغم من أن المصطلح يعني الاستعادة المستمرة لمعنى خسارة الأرض، عنف المحتل، والنزع الممنهج للسياق الاجتماعي من خلال سياسة المحو، لتكون في جوهره دلالات المرحلة التي استخدم فيها، خاصة بعد اتفاقية أوسلو والركود السياسي والمقاومة المستمرة للاحتلال من قبل الشعب الفلسطيني التي اتضحت في الانتفاضة الثانية/انتفاضة الأقصى عام 2000، ليأخذ السياق السياسي والاجتماعي لمعنى النكبة المستمرة أعمق الأمثلة لفهمنا للزمن، فماذا تعني اليوم قدرتنا على استيعاب سياق النكبة دون فهمنا للزمن الذي ننتمي إليه؟! في المطلق يعني عدم قدرتنا على امتلاك الحاضر، وهذا ما يحرص الاحتلال دائماً للسيطرة عليه. تبنى مصطلح النكبة مستمرة الباحث جوزيف مسعد والروائي الياس خوري، اللذان قدما أوجهًا متعددة لاستمرار النكبة، ورؤية الاحتلال لها، في الأدب والسياسة والتاريخ، ولكن اليوم أكثر من أي وقت مضى لا يمكننا أن نرى النكبة بوصفها دلالة لما حدث في الماضي ويحدث الآن، دون فهم علاقة الاحتلال الصهيوني مع الزمن.
هذا هو حالنا اليوم بعلاقتنا مع مفهوم المحو القائم على الإبادة، فمنذ عملية “طوفان الأقصى”، وما تبعها من إبادة جماعية مازال يرتكبها جيش الاحتلال الإسرائيلي حتى الآن، فإن النكبة لا يمكن تجريدها من احتمالاتها وعلاقة مرتكبها مع نفسه ومع الزمن الذي ينتمي إليه، وهذا يتضح بالتجريد الممنهج للجريمة، لا بالانتصار عليها، بل بإعادة تفكيكها باستمرار، حاول الاحتلال سابقاً تفكيك زمن نكبة عام 1948 بمحاولة القضاء على الشهود ومحو الذاكرة الشعبية ما يعني محو الجريمة، راهن الاحتلال على النسيان، تحديداً بالنسبة للّاجئين الفلسطينيين، لأن ضمان المستقبل كان أكثر تبسيطاً بالنسبة للاحتلال، كون الديمومة كانت تعني محو الآثار، ليكون زمن الاحتلال دائماً زمناً مجازياً دينياً يدعي الحق بارتكاب النكبة طالما الفلسطينيون هم المسؤولون عما أصابهم، غير أن اليوم أكثر من أي وقت مضى، حين نرى سياق الأحداث الذي أوصلتنا للحظة الإبادة، ندرك أن استمرار النكبة يعني أن الفلسطيني خاضع لعملية الإبعاد المستمر ليكون خارج الزمن، كانت "صفقة القرن" بنسختها النهائية مثالاً لمحاولة الاحتلال لضمان المستقبل، ما يعني أبدية النكبة واستمرار المشروع الاستيطاني، والتي قدمت لنا مثالاً لهذا الشغف بمحو الفلسطيني سياسياً، من خلال تصفية القضية، وإخراجها من سياقها من خلال إنهاء الصراع، ولا أظن أن هناك جوهراً للنكبة أوضح من جملة "تصفية القضية"، خاصة كون الحكام العرب لم يعودوا يرون في الاحتلال الاسرائيلي عدواً استيطانياً في المنطقة، نسيان القادة العرب لجوهر الوجود الصهيوني وأدواته، جعل نتنياهو يخاطب ناخبيه باستمرار كون صفقة القرن هي "أكثر خطة ودية تجاه اسرائيل" وكونها "انقلاباً مصيرياً لتاريخ الشعب الاسرائيلي".
لتكون النكبة اليوم في عدوان وحشي بلا أي أهداف سياسية، إنما مستمرة لإذلال الفلسطيني وإزالة الخصم. إنها مستمرة لتذكرنا أن التسوية السياسية للقضية الفلسطينية غير ممكنة طالما الشعب الفلسطيني ما يزال موجوداً. وها نحن نشهد جميعاً نقطة البداية، حيث يجب على الفلسطيني أن يُذل ويموت فقط، وإذا كان النسيان كوسيلة لمحو الجريمة غير ممكنٍ هذه المرة، سوف يكون العالم بجميع أدواته جاهزاً، لاعتبار من يقتلون رقماً، بلا أي سياق سياسي أو اجتماعي أو إنساني، وهنا تكمن وحشية العالم، حيث أنَّ النكبة لا تكمن في عملية التهجير والتجويع والقتل فقط، بل بقدرة الحكام العرب والحكومات العالمية على تهيئة الظروف لهذه الإبادة، لنعيش النكبة لا بصفتها ماضياً ولا حاضراً، إنما كحقيقة مستمرة تكبر كل يوم، وفي كل لحظة يتم فيها تكريس سياسة الإلغاء والحجب، ومحو الواقع الذي يعيشه الفلسطينيون في غزة والضفة والداخل والشتات.
الكلام عن النكبة في سياقها اليوم يوضح مدى ضرورة تغيير الخطاب الذي نستخدمه، أن أكون فلسطينياً سورياً، يمكنني أن استوعب الشعارات الكبيرة التي تستخدم كلمة النكبة اليوم كونها دلالة واحدة لا تحمل أوجهًا مختلفة، ولكن فعلياً هي عبارة عن تراكم تغيرات سياسية واجتماعية وظروف استثنائية، وحشية استثنائها لا تعني أبداً أنها لن تصبح نمطاً يومياً للحياة، النكبة اليوم بالنسبة لفلسطينيي الداخل 48 مختلفة عن معنى النكبة بالنسبة لأهل غزة، كما هي مختلفة بالنسبة لفلسطينيي الشتات، ولكن أزمنة كل هذه الاختلافات ودلالتها واحدة، وتعني اليوم كما تعني سابقاً، أنَّ على الفلسطيني أن لا يمتلك لحظته، أو أن يدرك حاضره، لتكون النكبة دائماً هناك في المستقبل، هذه "الهناك" التي حاول الاحتلال ضمانها، بالتطور المفرط للوحشية، لندرك اليوم أكثر من أي وقت مضى، ونحن نشاهد وحشية الإبادة وأدواتها، أن النكبة ليست حدثاً تاريخياً واحداً، بل حدثاً تراكمياً، بدأ عام 1948 وما زال مستمراً، وفي غزة اليوم أكثر من أي وقت مضى، نرى كيف يتم تفتيت الزمن إلى لحظات قصيرة، تكفي لارتكاب المذبحة، طالما يمكن تبريرها باعتبار أن من يموت ليس إنساناً، بل "حيوانات بشرية" كما صرح وزير الدفاع الإسرائيلي "يوآف غالانت" في بداية العدوان على قطاع غزة.
في شهر أغسطس أي بعد ثلاثة أشهر من احتلال فلسطين وتهجير الفلسطينيين في عام 1948 استخدم المؤرخ السوري قسطنطين زريق كلمة النكبة، لتدخل الكلمة المعجم العربي المعاصر، التي مازالت عصية عن الترجمة إلى لغات أخرى، لربما لما تكتسبه من دلالات، ولما تعبر عنه فلسطينياً من ممارسات استيطانية وتطورات سياسية، لتصير الكلمة بكل معانيها مرآة كبيرة تعكس باستمرار جوهر الزمن الذي نستخدمه فيها، لذلك ليس غريباً أن للكاتب غسان كنفاني مجموعة قصصية بعنوان "عالم ليس لنا" نشرها عام 1965، لأن العالم بكل ما فيه من تكنولوجيا وقوانين ومؤسسات وجمعيات وقنوات تلفزيونية لم يمتلك شجاعة الاعتراف بحقيقته، وأن قصة "العروس" التي ختمت المجموعة القصصية، لم تكن أكثر قسوة عندما أخبرتنا مباشرةً أن الموت والجنون للأبطال، لا يعني النهاية.
لذلك فإن نكبتي الفلسطينية اليوم تكمن في العجز، ليس عجز الخائف أو الهارب، إنه عجز المخذول الحاقد، الذي يجب أن يسبر غور عتمته بصمت، ليس لأنه لا يملك شيء ليقوله، بل لأن إنسانيته بنظر العالم غير منجزة، ولأنه يعرف تماماً أن الفارق الهش بين ما هو شخصي وعام، يكمن في، الضجيج، ضجيج أصواتنا ومشاعرنا وصراخنا في الساحات، في لحظات اليقين التي باتت تعني لنا كل شيء.
لذلك المخذول والعاجز لا ينسى، لأنه ينتمي لهشاشة الفعل المضارع المستمر في معاني النكبة وتجلياتها، وصار حقده الشخصي حرية لها ثمن، التنازل عنها يعني التنازل عن جوهر وجوده.
أنتجت هذه المادة بدعم من “الأكاديمية البديلة للصحافة العربية” التي تشرف عليها فبراير، شبكة المؤسسات الإعلامية العربية. المستقلة وينشر بالتعاون مع “فارءه معاي - المنصة الإعلامية العربية المستقلة.