لحظاتٌ مرّت منذُ أن أوقفتُ سيارتي على حافةِ الطريق، وهو الطريقُ الذي يقعُ قبلَ موقفِ الشاطئ، وكنتُ قد مررتُ مُسرعًا إلى هُنا، متحاشيًا المرورَ من الموقفِ قدرَ الإمكان للجلوسِ على هذا الشاطئ!
عندما كنتُ صغيرًا، أي ما دون السابعةِ من عُمري، لم يكن يعني لي هذا المكانُ شيئًا سوى أنه أول مَعلَم كنتُ أشاهدُه في الصباحِ، وأتأمله من وراءِ نافذةِ منزلِنا البانورامية.

كبرتُ، وكبُرَت معي آفاقي، وصرتُ أحاولَ أن أدركَ كُنه ذلك الشاطئ، وصارت تتشكل في داخلي صورة مختلفة عنه، إنه شاطئ (الطنطورة)، إذ لم أكن أعلمُ سابقًا سوى أن اسمَه مرتبطٌ باسمِ بلدةٍ كان يجبُ أن تكون هناك، أو لعلّها هناك، ولا زالَ أهل القريةِ يُسمّونها بـ (الطنطورة)، رغمَ ظهورِ اسمٍ جديدٍ لها وهو "دور- نحشوليم"، وكنتُ أظنّ بأن ما أشاهدُه ما هو إلا أطلالُ قريةٍ فلسطينية، واكتفيتُ بهذا، ولم أحاول التعمقَ في ذلك أكثر!

 لقد شاءت الأقدارُ أن أعيشَ قسطًا من الزمنِ في الخارج، تحديدًا في ألمانيا، وكان ذلك في بدايةِ شبابي، وفي تلك الفترة بدأت أسأل نفسي عن نفسي، عن معنى الهويةِ والوطن، هوية الفلسطيني الذي يبحث عن وطنِه أينما دارت عيناه الحائرَتان، فقد كانت المفارقةُ حين صارَ الحِسُ الوطنيُ ينمو في داخلي شيئًا فشيئًا هناك، ويزدادُ كلّما زادت أيامُ الغربةِ واحدًا، حتى وجدتُني وقد رحلَ بي الخاطرُ للوطن، إلى حيثُ (الطنطورة)، تأملتُها جيّدًا، وعرفتُ عندها أن الطنطورة لم تكن مجرّد قرية أو مَعلمٍ على شاطئ، بل موطنًا لأناسٍ هُجّروا وأبطالٍ قُتِلوا، ولهذا فقد اصطنعتُ عادةً جديدة، وهي أنني كلما سنحت لي الفرصةُ بالعودةِ إلى البلادِ، آخذُ سيارتي هاربًا بعيدًا إلى ذلك الشاطئ رغم قربه  لعلّي أجدُ في أعماقِهِ نفسي أو أجدُ وطني بينَ أمواجِه، كاعتذارٍ مني على عدمِ اكتراثي في الصغر.

كان الشاطئُ خاليًا من الناس، وكنتُ أجدُ عزاءً وراحةً في ذلك، لم أكن أرى سوى شيخٍ يجلسُ مادًّا بصره نحو الأُفُق، لم يكن حزنُهُ خافيًا، وكنتُ أراه في نفسِ المكانِ في كل مرةٍ آتي بها إلى هنا، لم تتغير نظرتُهُ أبدًا، ومهما غبتُ وعدت للشاطئ أجده لم يبرَح مكانه، معتكفًا في محرابِ صمتِهِ الغريب المهيب، في إحدى المراتِ، لم أتمالك فضولي، فاتجهتُ إليه، ولم يكن يلتفت مهما اقترَبت خطواتي منه، حتى صرتُ بجانبِهِ تمامًا، ألقيتُ التحية، لم يغادر محرابَ الصمت، نظرتُ إلى حيث ينظر، لقد كان البحرُ والأفق، نظرتُ إليه للحظةٍ وكأني أحاولُ أن أقرأ عينيه، لكني فشلت، لقد كان الحزنُ سائدًا فيهما، ولا شيءَ غيره، وقد حاولت معه في كل المراتِ التي جئتُ فيها هنا لكن دون جدوى، فقد نما في داخلي شعورٌ أنّه يعرفُ أسئلتي، ويملكُ إجاباتِها، ولكنه يبخلُ كالدنيا عليّ.

 هناك، كنتُ أوقفُ سيارتي في موقفِ الشاطئ، أخرُجُ منها، أُلقي نظرةً محوريةً من حولي: هذه جبالُ الكرمل حيثُ قريتي الحبيبة على سفحها، كم جميلةٌ هي من الخارج، "زخرون يعقوب"، "زمرين" المفقودة، مداخن محطة القوة في الخضيرة على أركانِ خربة المفجّر، وأهلُها جيراني في الحي، حيفا الجميلة في النقيض، وما بيني وبينها آثارُ المُثلثِ المَسلوبِ من كفر لام وصرفند وعين غزال، حيثُ لم يبقَ سوى قَريتي تقفُ كالجزيرةِ في وسطَ مُحيطٍ مهجور، وهناك الشيخُ الصامت كتمثالِ إلهٍ إغريقي.

 أدخلُ القريةَ السليبة، وأبتعدُ عن الموقفِ أكثر، أقترب من الشاطئ أكثر، ومن الشيخِ أكثر، أتأمله، أتأمل القرية مجسدًا إياها، أرسمُها كما أراها، رغمَ بنيانِها السياحي الجديد، فما زالت آثارُ المسجد ومقام الشيخِ قائمة، لكن جُل ما بحثتُ عنه كان شهداءُ مجزرةِ الطنطورة، والذين ارتُكبت في حقّهم إحدى أبشعِ الجرائم، أسمعُ أصواتَ بكاءٍ في رأسي، يزدادُ علوًا، يختلطُ بصوتِ الموجِ وصمتِ الشيخ..

مشيتُ أقلبُ بصري، غارقًا في صمتي وخطواتي، أبحث عنهم، لعلي أجدُ قبرًا أو ركنًا، أو حتى دليلًا عليهم يومئ للمارّ بذكراهم، ولكنني رجعتُ دونَ جدوى، وعدتُ بخفي حُنَين إلى قريتي، وبقيتُ كلما جئتُ إلى هنا، أعيد الكرّة، المرة تلوَ المرة، فأوقفُ سيارتي، وأترجل منها، وألقي نظرةً محوريةَ حولي باحثًا عنهم وأسأل:

أيُعقلُ أن تصلَ الجريمةُ إلى حدّ أن تُلقى تلك الأجسادُ الطاهرةُ في البحر؟ لا أسمع إجابة سوى صوتِ الموجِ الهادرِ، والشيخُ يخترقُ بعينيه الأفقَ الأزرق، أتنهد في يأس، ثم أطرق رأسي مغادرًا، وأعودُ إلى قريتي!

في إحدى المراتِ، عدتُ إلى الموقف، وألقيتُ تلك النظرةَ الغريبة، هرعتُ إلى الشاطئ، لا بدّ أن يكونوا في مكانٍ ما هنا، لم أجد أحدًا، لم أجد ما يروي ظمأ سؤالي هذا، وعلت الأصواتُ والأسئلةُ في رأسي، تصببتُ عرقًا، ومشيت تجرني قدماي حيث يجلسُ شيخُ البحر، جلستُ وأنا ألهث تعبًا، ولُذتُ بالصمتِ مثله أنظرُ في الأفق، وفجأة سمعتُ صوتًا بجانبي يقول: "أمِرنا بحفرِ خندقٍ ورمي الجثثِ فيه، ومن ثم رممّوا آثاره وأقاموا موقف الشاطئ عليه"، اخترق الصوتُ فؤادي، وهزّت الجملةُ كياني، التفتُ إليه، أردتُ أن أقول له ليتك لم تحدثني، ليتك لم تخبرني، لكنّه كان قد غادر، لقد غابَ في الأفق، ولم أرَه بعد ذلك!


الصورة: لأهالي من الطنطورة يحفرون قبورهم قبل استشهادهم في أيار 1948. من موقع: Palestine Remembered

إيهاب جبارين

باحث مختص بالشأن الإسرائيلي

لينا شمالي زيادات
رائع جدا استاذ ايهاب .. اقرأ الكلمات ولكن ما بين السطور ظاهر أكثر من كلماتها . انه الشوق والحنين لزمن ربما لم نعشه نحن ، بل عاشه آبائنا وأجدادنا . حنيني لبيت جدي في واد النسناس في حيفا والذي أجبر على هجره مع أبي عندما حين لم يتجاوز الخمس سنوات ، واشتياقي لقرية السنديانة التي ولدت بها امي واجبرت على الرحيل منها طفلةً وعائلتها . نعم انه الحنين الذي يجمعنا نحن الفلسطينين والذي يجعلنا نتجذر في هذه الأرض ولا نتركها أبدا .
الأحد 27 تشرين الأول 2024
رأيك يهمنا