لا نزهة في حيّز النّكبَة
"هون كانت المدرسة، وهناك كانت الدار". هذه إحدى الجمل التي تتردَّدُ كثيرًا خلال الجولات في المدن والقرى الفلسطينية المهجرة. فالتجوال في البلدان الفلسطينية المهجرة هو بالأساس مسير في اللا - وجود، واجتهاد لرؤية اللا – مرئيّ. هو في الواقع تجربة عاطفيّة وتعليميّة شاقّة، يغوص خلالها المتجوّل فيما ليس موجودًا على أرض الواقع، ويبحث عّما هو ممحوٌّ من المشهد ومن الوعي. هو محاولة لاستحضار المُغيّب واستعادة المُبعَد. وعليه، فهو تجربة مثقلة بالعاطفة إلى جانب المعرفة، بالمعلومة التاريخية إلى جانب مظالم النكبة، بجمال منظر الطبيعة إلى جانب قبح مشهد الاستعمار. هو تجربة لا تسمح "للسائح/ السائحة" بأن يظلّ محايدًا، فتطالبه باتخاذ موقفٍ أخلاقيّ وسياسيّ إزاء الحيّز وقصّته وإزاء أصحابه مسلوبي حقّ الحياة بين أكنافه، بل لا تسمح له بأن يظلّ متلقّيًا فتضطرّه إلى التفاعل فكريًّا وذهنيًّا لتخيُّل وتصوّر العدالة والعودة والمستقبل.
خلافًا للجولات السياحية التقليدية التي توفّر للسيّاح فرصة للتعرف على الحيّز كما هو، والاستمتاع بجماله، فإن الجولات في البلدان الفلسطينية التي هجّرت خلال النكبة، وبغالبها مُسحَت من على وجه الأرض، تتميَّز بأنها جولاتٌ متمرّدةٌ على صيغة الحيّز كما نراها، وتدعو لعدم تقبّلها والاستئناف عليها وكشف الحقيقة التي تخفيها تحتها. بذلك هي لا تدعو إلى الاستمتاع بالمشهد، وإن بدا جميلًا، بل تدعو إلى فهمه كغطاء مصمّم لخدمة أهدافٍ سياسيّةٍ استعماريّة، وكأداةٍ ذكيّة لطمس المعالم وإنكار المظالم.
خلال الحكم العسكريّ الذي فرضته إسرائيل على مدى ثمانية عشر عامًا، منذ إقامتها حتى عام 1966، على الفلسطينيين داخل الخطّ الأخضر، لم يكن مسموحًا للفلسطينيّ، حامل المواطنة الإسرائيليّة، التحرك في وطنه إلّا بتصريح ٍمن الحاكم العسكريّ. كان هذا المنع نافذًا خلال العام كلّه ما عدا يومًا واحدًا، هو ما يسمى يوم "الاستقلال الإسرائيليّ". كانت بالطبع أهداف إسرائيل خبيثةً من وراء منح "الحريَّة" للفسطينيّ في ذاك اليوم تحديدًا، ليتذوَّق طعم الحريَّة فقط في يوم "تحرّرها" هي. لقد كان، وما زال، أكثر من ربع الفلسطيننين في الداخل مهجّرين في وطنهم، ممنوعين من العودة إلى بلدانهم الأصليَّة رغم قربها عن مكان اللجوء. في الوقت الذي خرج الإسرائيليّون في ذاك اليوم إلى "الطبيعة" للاحتفال، استغلّتْ غالبية المهجّرين الفلسطينيين في الداخل تلك الثغرة لزيارة بلدانهم الأصليَّة المهجّرة، لقضاء ذاك اليوم مع عائلاتهم بين أحضانها. لقد استوعب المهجَّرُ الفلسطينيُّ منذ البداية أنّ زيارته لبلده الأصليّ وتجواله فيها هي جانب من جوانب الصراع على المكان، وبما أنه كان واعيًا أيضًا لميزان القوى ولجبروت المستعمِر فقد فهم أن صراعه في تلك المرحلة هو صراع على الذاكرة وعدم النسيان، وأنَّ هدفه هو الحفاظ على علاقة معيّنة ولو روحانيَّة مع قريته أو مدينته.
على مدى عشرات السنين قامت إسرائيل بتجيير الحيّز الذي استولَت عليه ليتماشى مع أهدافها السياسيَّة ومشروعها الاستيطانيّ وفكرها الصهيونيّ، فقامت بعمليّات تهويد وأسرلة وعبرنة عنيفة تجاه المكان، ومحو ما أمكن من هويته الفلسطينيَّة العربيّة. فقامت بتدمير غالبيَّة القرى الفلسطينيَّة المهجرة وقسم من مراكز وأحياء المدن، وأقامت عليها أو بجانبها، على أراضي اللاجئين الفلسطييّين، مدنًا وبلدات يهودية، أو مؤسسات كالجامعات والمتاحف أو غابات ومتنزهات ومنحتها أسماءً عبرية ويهودية ومحت أسماءها العربيّة.
هكذا كانت صياغة الحيّز المهوَّد والمؤسرل، الظاهر للعيان على سطح الأرض، أداة لطمس وقبر الحيّز الفلسطيني تحت الأرض، وبذلك تغييبه عن الوعي والذاكرة وقصّة المكان. كما أنَّ هذه الصياغة القسريّة جاءت تعبيرًا عن ثقافة الإنكار ووسيلةً لصناعة ذاكرة وصقل وعي متماشيين مع الايديولوجيّة الصهيونيّة ودعايتها عن الأرض الفارغة والقاحلة إلى أن جاءت الصهيوينة المخلّصة فملأتها وأحيتها. بناءً على هذا الفهم للعدوان الفكري الممنهج والغزو الذهنيّ الذي تشنُّه إسرائيل على الوعي والمعرفة في الحيّز عامّة وفي البلدان المهجرة خاصةً، فقد اكتسبت الجولاتُ في البلدان المهجَّرةِ صبغة النشاط المواجِه والمقاوِم لسياسة الاستعمار، من أجل استعادة الحيّز الفلسطيني إلى الذاكرة والوعي، مما يأخذنا إلى تسمية هذه الجولات "سياحة مقاوِمة". فعندما نتجول في إحدى غابات الصندوق القومي اليهودي، ونرى أن أشجار الاستعمار تغطّي أطلال قرية فلسطينية وتساهم في إخفاء جريمة النكبة ونردّد، مثلًا، أننا في قرية عمواس المهجرة لا في بارك كندا فهذه ذاكرة مقاوِمة. وعندما نتردّد على جامعة تل أبيب ونقول إننا في قرية الشيخ مونّس، باسمها العربيّ، فهذا وعي مقاوِم.
تتميّز الجولات في البلدان المهجرة، أو ما يمكن تسميتها بجولات في النكبة، بأنها لم تُدرّس في مؤسسات رسمية ولا تقف من ورائها مدارس وكليّات تؤهل مرشدين ومرشدات لهذا الغرض. كان اللاجئون واللاجئات من الجيل الأول للنكبة هم المدرسة الأولى والأساسية التي علمتنا ووصفت لنا قراها ومدنها قبل النكبة والتدمير، وكيف تمّ احتلاها وتهجيرهم. هذا الفصل من التاريخ، خلافًا لما هو متّبع، لم يكتب بيد الغزاة المنتصرين بل بيد وبأفواه الضحايا. مما يعطي لهذه الجولات أهمّيَّة إضافيَّة بالنسبة لضحايا النكبة إذ تشكّل بالنسبة لهم "سلاح الضعفاء" الذي حققوا بواسطته انتصاراتٍ عزَّزت وجودهم وقصّتهم وانتماءهم وحقهم في بلدهم. وفي الوقت نفسه، نجحوا في صدع وشرخ سرديَّة المنتصر المهيمنة على كتب التاريخ وجهاز التعليم والإعلام.
لطالما استُعمل التجوال عبر التاريخ آليّةً من قبل الغزاة والمستعمِرين، حيث أرسلوا بعثات وأفرادًا لاستكشاف ودراسة المناطق المستهدفة تمهيدًا لاحتلالها والاستيلاء عليها. فكان التجوال، وبناءً عليه ترسيم الخرائط لتلك المناطق، أداة بيد جيوش الاستعمار ومفكّريه أسهمت في تيسير وترسيخ الاحتلال والظلم، وقمع وسلب الشعوب المستضعفة والمقهورة واستعمارها. بينما استعملت ذات الآلية لاحقًا، بيد تلك الشعوب المقهورة والأصلانيّة، أداةً لنزع الاستعمار (Decolonization). وفي هذا السياق يجب أن توضع الجولات في البلدان الفلسطينية المهجّرة. فبالإضافة إلى كونها صراعًا على الذاكرة، فإنها أداة لنزعِ الاستعمار، نزعِه أوَّلاً من وعينا وخطابنا ومصطلحاتنا ورحلاتنا.
بما أنَّ النكبة ما زالت مستمرّة، وما زال اللاجئون الفلسطينيون يطالبون بتطبيق حقّهم في العودة إلى بلدانهم، فإن الجولات في هذه البلدان المهجرة، بعد أن أدّت وظيفتها كنشاط مقاوم للنسيان والمحو ومناهض للاستعمار والتهويد، فإنها قد تطوّرت إلى نشاط مطالب بالعدالة والعودة. فلم تعد جولات تتعامل فقط مع الماضي والحاضر وبلورة المعرفة والوعي تجاههما، بل أيضًا مع المستقبل. أي أنّ النظرة إلى الحيّز، خلال هذه الجولات، صارت تتعدّى رؤيته حيّزًا منكوبًا يحمل مآسي الماضي وحسرة الحاضر، بل تراه حيّزًا يحمل الأمل، ويجب تجهيزُهُ وتخطيطُه للعودة واستيعاب العائدين والعائدات وبناء البلدان المدمّرة من جديد. بهذا المفهوم تصبح الجولات في البلدان الفلسطينيَّة ذاتَ مغزى سياسيّ قويّ، تساهم ليس فقط في تخيّل الحيّز قبل التهجير والتدمير بل وتصوّره بعد التحرير، وبذلك يمكن اعتبارها برزخًا موصلًا بين النكبة والعودة.
عمر الغباري
محاضر في موضوع النكبة والهويّة والعودة، ومنظّم ومرشد جولات في البلدان الفلسطينية المهجّرة. يعمل في مؤسسة "ذاكرات"،المختصّة في التوثيق والتعريف بالنكبة، خاصةً بالعبرية، والداعية إلى الاعتراف إسرائيليًّا وعالميًّا بالنكبة وتطبيق حقّ العودة. حرّر وكتب عشرات الكتيّبات التي توثق البلدان المهجرة، تاريخها وحاضرها، بالعربية والعبرية. وهو محرّر شريك لكتاب "عودة: شهادات متخيَّلة من مستقبلات ممكنة" (2013)، وكتاب "حكاية بلد: دليل مسارات" في البلدان المهجّرة (2012).