الحرب على غزة وسقوط خطاب المواطنة

هذا المقال يدعي أن إسرائيل هي دولة مارقة (Rogue State),[1] كونها دولة متمردة على سلطة القانون الدولية وتهدد الأمن والسلام في الشرق الأوسط، وبالتالي يجب إعادة النظر في منظومة العلاقة بينها وبين فلسطينيي الداخل (فلسطينيي 48) وذلك خارج نطاق خطاب المواطنة. نفصّل؛

إسرائيل هي دولة احتلال استعماري تنتهج سياسة الفصل العنصري – الأبرتهايد في الأراضي المحتلة وفي الداخل الفلسطيني[2] مما يجعلها دولة استعمارية مبنية على التمييز العنصري (Colonial Apartheid State). إسرائيل اعتمدت منذ تأسيسها نظام حكم استعلائيًّا يرسخ فوقية الشعب اليهودي على الشعب الفلسطيني من خلال عشرات القوانين والسياسات الممنهجة المباشرة وغير المباشرة حتى تجلى التوصيف من خلال قانون أساس اسرائيل دولة القومية للشعب اليهودي في سنة 2018. هذه القوانين والسياسات متاحة من خلال الديموقراطية الرسمية (خلافا للديموقراطية الجوهرية) التي اعتمدتها إسرائيل منذ تأسيسها والتي تمكّن الأغلبية، العرقية والدينية في الحالة الإسرائيلية، من تمرير قوانين وسياسات عنصرية تحت غطاء الديموقراطية. بالرغم من الصعوبات والتناقضات البنيوية في نظام الحكم الإسرائيلي حاول الفلسطينيون على مدار أكثر من خمسة وسبعين عامًا استعمال خطاب المواطنة على كل تفرعاته من خلال المشاركة في اللعبة السياسية الإسرائيلية من أجل التأثير والتغيير، ولكن دون جدوى في القضايا المفصلية ودون جدوى حقيقية في القضايا الحياتية. ننوه هنا، أن المنظومة الديمقراطية الإسرائيلية تجعل من تحقيق إنجازات من خلال الشراكة السياسية أمرًا شبه مستحيل, لأن ديموقراطيتها لا ترتكز على أغلبية أيديولوجية (متغيرة حسب قوة الأحزاب) في كل ما يتعلق بالقضايا المفصلية في الدولة (الأرض، الديموجرافيا والهوية) وذلك لأن الأغلبية اليهودية هي أغلبية ثابتة وكذلك الأقلية الفلسطينية ثابتة وعليه فإن الديموقراطية الإسرائيلية هي حكر للأغلبية اليهودية (يذكر أنّ جنوب إفريقيا إبان نظام الأبرتهايد كان لديها نظام ديموقراطي متطور ولكن كان حكرًا على السكان من الأصول الأوروبية بمعنى ديموقراطية بيضاء ولذلك تم نبذها وتجريمها دوليًا).

فوق كل ذلك، أتت حرب الإبادة الجماعية على الفلسطينيين في غزة لتجعل من تعريف إسرائيل كدولة مارقة أكثر جليا. إسرائيل متهمة بارتكاب أبشع جريمة في كتب القانون الدولي وهي جريمة الإبادة الجماعية. بل أكثر من ذلك، فقد أقّرت محكمة العدل الدولية وجود أساس منطقي ومعقول أنها تقوم بارتكاب هذه الجريمة[3] ويمكن القول إن غالبية فقهاء القانون الدولي المتابعين لما يحدث في غزة قد استقروا على توصيف الحرب على غزة كحرب إبادة جماعية مما يحول إسرائيل إلى دولة تحمل هذا العار القانوني والأخلاقي كدولة تنتهج حرب الإبادة الجماعية (Genocidal State). إسرائيل قررت كدولة ذات سيادة أن تتمرد بشكل ممنهج على شرعية القانون الدولي ومؤسساته وذلك من خلال عدم الانصياع إلى قرارات أعلى المحاكم الدولية المستقلة. إسرائيل أخلّت (جوهريا) بكافة الأوامر الصادرة عن محكمة العدل الدولية، بكل ما يخصّ الحرب على غزة، الملزمة لها قانونيا كدولة عضو في الأمم المتحدة والموقعة على ميثاقها والموقعة على معاهدة منع جريمة الإبادة الجماعية (كما لم تنصاع إلى أوامر ذات المحكمة الواردة في الفتوى القانونية الخاصة بموضوع جدار الفصل العنصري لسنة 2004 والملزمة أخلاقيا). بالمقابل، إسرائيل قررت مهاجمة محكمة الجنايات الدولية وتهديد طواقمها القضائية لردعهم عن مقاضاة قياداتها المتهمين بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية بحق الفلسطينيين في غزة. أضف الى ذلك، على مدار عقود لم تلتزم إسرائيل بعشرات القرارات الصادرة عن الهيئة العامة للأمم المتحدة، ذات الهيئة التي أوجدتها واعترفت بها كدولة مستقلة، ولم تلتزم بالعديد من قرارات مجلس الأمن الدولي (حتى تلك القرارات التي لم تستعمل بها الولايات المتحدة حق النقض - الفيتو) وتعتبر أكثر دول العالم إخلالًا بقرارات الأمم المتحدة. فإسرائيل تعتبر نفسها فوق سلطة القانون الدولية، ولكن فعليا هي دولة مارقة تعمل خارج نطاق القانون والعرف الدولي لتحمل صفة (Colonial Apartheid Genocidal State) فكيف للمواطنين الفلسطينيين التعامل معها من خلال خطاب المواطنة المعتاد؟

حرب الإبادة على غزة هي محطة فاصلة، ما بعدها ليس كما قبلها. فلسطينيو 48 هم جزء من الشعب الفلسطيني في الشتات، في الضفة الغربية وفي قطاع غزة، وعليه أدوات التعامل مع الدولة ذاتها التي تبيد، تدمر وتشرد الشعب الفلسطيني في غزة يجب أن تتغير. لو فرضنا جدلا أنّ حرب الإبادة ترتكب ضد الفلسطينيين في الجليل او المثلث او النقب، هل يعقل أن يستمر فلسطينيو المناطق المتبقية من التعامل مع الدولة بنفس الأدوات السياسية؟! عليه، فالمشهد السياسي "لليوم التالي" يجب أن يكون مغايرًا لما قبله ويحتاج إلى دراسة إمكانيات أخرى ترتب العلاقات ما بين الفلسطينيين ودولة إسرائيل, كما هو الحال مع مجموعات قومية مختلفة متنازعة أو ذات مصالح مختلفة في أماكن اخرى في العالم, وذلك بدءًا من أنظمة حكم توافقية (Consociationalism ) تنظم العلاقات ما بين الدولة والمجموعات القومية مثل تقاسم الشراكة في الحكم (Power Sharing) او النظام الاتحادي (Federalism) او أنظمة حكم تضمن الاستقلالية للمجموعات القومية في إدارة شؤونها مثل الإدارة الذاتية على تنوعاتها (ِAutonomy). استمرار استعمال نفس الأدوات من الشراكة السياسية واستعمال خطاب المواطنة، لا يعني فقط استعمال ذات الأدوات غير الناجحة مرارا وتكرارا وانما لا يرتقي للحدث الجلل والمفصلي الذي تجلى في حرب الإبادة على الشعب الفلسطيني في غزة.

المتابع للتغييرات في الرأي العام الإسرائيلي اليهودي (او للدقة الصهيوني) يرى أن الحرب على غزة هي مفصلية أيضا من طرفه في كل ما يتعلق بالمواطنين الفلسطينيين. الغالبية الساحقة من الإسرائيليين يؤيدون الحرب على غزة على كل ويلاتها وبشاعتها والغالبية الساحقة من الفلسطينيين يعارضونها ويتعاطفون ويدعمون الشعب الفلسطيني الواقع تحت هذه الحرب. مواقف الطرفين المتناقضة أصبحت جلية وأكثر وضوحا. هذا التناقض يلقي وسيلقي بظلاله على العلاقات ما بين المجموعتين. حالة المواطنين الفلسطينيين السيئة سوف تزداد سوءًا، سياسات القمع، التمييز، التهميش والاستبداد سوف تستشري وقد تتحول إلى ما يشبه الحكم العسكري. عليه، ولكي ننفي رومانسية الطرح البديل، فنقول إن الشرخ الذي أحدثته هذه الحرب غير قابل للتجسير من كلا الطرفين وقد يكون من مصلحة الطرفين إيجاد بدائل قانونية وسياسية لترتيب العلاقات فيما بينهم. هذه المقالة المقتضبة لا تشير إلى أيّ من هذه البدائل هو الأفضل أو الأكثر ملائمة وبالضرورة ليس قبل أن تضع الحرب أوزارها وتتضح الصورة الجيوسياسية في المنطقة، ولكن تقترح التفكير بها.


[1] دولة مارقة هو مصطلح ينسب في العرف الدولي الى دول متمردة على القوانين والمواثيق الدولية وتهدد الامن والسلام الدوليين كدولة كوريا الشمالية حاليا وسبق استعمال المصطلح من قبل الولايات المتحدة ضد العراق وأفغانستان وسابقا تم نسبه الى ألمانيا ابان حكم الحزب النازي. يذكر ان المادتين الخامسة والسادسة لميثاق الأمم المتحدة يحددان طرق التعامل مع الدولة المارقة بما يشمل إمكانية الفصل من هيئة الأمم المتحدة.

[2] انظر تقرير منظمة العفو الدولية، نظام الفصل العنصري (أبارتهايد) الإسرائيلي ضد الفلسطينيين (2002)

[3] انظر قرار محكمة العدل الدولية الصادر في يوم 26.1.2024 الذي نص بان هناك أساس وأدلة كافية تدعم احتمالية ارتكاب اسرائيل لهذه الجريمة ولذلك أبقت القضية المقدمة من جنوب افريقيا ضدها قيد البحث.

د. ضرغام سيف

المحاضر والباحث في القانون الدولي

رأيك يهمنا