كَسْرُ حِصار المواطَنَة المُنكسِرة وأُفق التّغيير
الأحداث المُتزاحمة في عُنفها -والتي عُنوانها الرّئيس هو انهيار الرّادع الإسرائيلي الذاتيّ عن استعمال القوة بأبشع أشكالِها ودون أي اعتبار إنساني وأخلاقي، أمام صَمتٍ وتواطُؤ عربي ودولي، واستبدالِه بِسُعار المزيد من استعمال العنف والقوة بِما يملأ نفوس مواطني إسرائيل نشوةً بالنصر تُعزّز أسطورة الشعب الذي لا يقهر أمام أعداء هُم أقلّ قيمةً كَبَشر- تَضع أمام الفلسطينيين في إسرائيل سؤالًا مصيريًا حولَ مكانتهم ومواطنتهم الإسرائيلية. إن شَكْل هذه المواطنة ومضمونها منذ الحرب وتجلّياتها في تَعامل الدولة ومواطِنيها اليهود تِجاهَنا بسبب هذه الحالة الذهنية، والمخاطر المُمكنة الناجِمة عنها، ومسألة القُرب مِن الدولة والبُعد عَنها في تصرّفنا السياسي، وما إلى ذلك كلّه مِن تداعيات داخل الحالة السياسيّة والنفسيّة لإسرائيل ومواطنيها اليهود والعرب، تجعَلُنا اليوم بحاجة إلى إعادة فَهم وتقييم ورسم نقطة التوازن المُثلى التي تقلّل الضرر عَلينا وتعزز من إمكانيات الصمود في أرض الوطن. هذه المقالة بمثابة نداء لمحاولة مَوْضَعة المواطَنَة في الرّاهن وتعقيداته واستشرافٍ لفِعلٍ يفتح آفاقًا جديدة.
لهذا السؤال أبعادٌ لا تقتصر على البُعد الحقوقي والمادي والاقتصادي والمَعيش اليوميّ فحسب، وإنما هي الآن- أكثرَ من أيّ وقت مضى- سؤالٌ شائك بِعُمق الهوية والحالة النفسية الفردية والجمعية التي يترَتّب عليها فِعلنا الاجتماعي والسياسي في الحاضر والمستقبل. ليس هذا التوتر جديدًا، فهو الحالة المزمنة، لكِنه يأخذ في الراهن مضمونًا ينطوي على أخطار أضخم قد تأخذنا على نقيضي المواطَنَة: بدايةً التسليم بالأمر الواقع، فالتّماهي والانصهار، أو الانكفاء على الذات والنأي بِها عن المشاركة الجادّة في مساحة المشاركة السياسية المُتقلّصة التي ما زالت توفّرها المُواطنة. إننا أمام حالةٍ شبيهة بمعضلة القُنفذ للفيلسوف الألماني شوبنهاور التي ساقها مجازًا لوصف حالة الفرد بالنسبة للآخرين، فإن اقترابَه الحميمي منهم يؤذيه، وكذلك الابتعاد عنهم مسافةً معينة يؤذيه، لذلك عليه أن يجِدَ المسافة المُثلى لِمَنع الأذى. في حالة مواطَنَتِنا فإنه كلّما اقتربنا من الدولة فإن شوكَها يُهدّد بتمزيق هويتنا، لأننا مطالبون في كلّ خطوة اقتراب بالتخلي عن أجزاءَ من هذه الهوية، ويزداد مُستوى المَطالب حِدّة مِن حكومة إلى حكومة، وأنّنا إذا ابتعَدنا فنَحْن نغامر بفقدان إنجازات حقّقناها بشق الأنفس، بل ونخاطر بوجودِنا حيال حالة الهَوَس والانفلات، خصوصًا في وضع سياسي واجتماعي يبدو فيه اليمينُ باقٍ كمسيطر على مقاليد الحكم، وهو يستطيع، دون رادع خارجي وداخلي، تَنفيذ مشاريعه تجاهنا كما ينفّذها تجاه شعبنا.
استطعنا كمجتمعٍ وقياداتٍ مُنذ النّكبة المناوَرَة بشكل ناسَب الحالات السياسيّة المختلفة وحقّقنا إنجازات لافتة في تطعيم المواطَنَة بمضامين تتعلق بمكانتنا، في البداية عبر المطالبة بمبدأ المساواة، وبعدها تطويرَه بشكل مستمر ليتضمّن أيضًا البُعد القومي والحقوق الجماعية عبر مبدأ المساواة في الاختلاف وتحدّي البنية القومية-اليهودية للمواطنة وطَرح دولة المواطِنين. وإن لم تَنجَح هذه الطروحات بشكل كامل، فهي دفَعت بمكانَتنا إلى الأمام، وبَنَت ثقة بالنفس أتاحَت تعامل مع الآخر بِنِدّية ليس فقط على مستوى السرديّة والهوية وإنما بالانخراط في مناحي الحياة المختلفة وفي مجالات متعددة. هذه إنجازات ضخمة تحقّقت في المساحة المُمكنة والمحدودة للمواطَنَة التي كان في لُبّها إمكانيتنا استيعاب التناقضات البنيوية في المواطَنَة ذاتها. لم يكن هذا الاستيعاب سهلًا ولم يَكُن نتيجةَ تخطيط مُسبق، لكنّه نَتَج مِن "العَقل الجَمعيّ" الذي استطاع أن يَعي الظَرف ويتلاءم معه مع الحفاظ على مَكنون الهوية الفلسطينية مُقابِل الضغط الهائل عليها مِن مجرّد التواصل العميق واليومي في دورة الحياة الإسرائيلية وإغراء التخلّي ولو الجزئي عن الهويّة.
لقد اختلفت الظروف مُنذ الحرب على غزة بِشَكل جذريّ عن تلك التي أتاحت المُناورة سابقًا داخل المواطَنَة، وتَوسيع حدودها وإن بنَجاح محدود، لكنّه مهمّ لتطوّرنا وتَمكين بقائنا. لِكَي تكونَ المواطَنَةُ ممكنة يجب أن يُوفَّر لها حَدٌّ أدنى من الأمان أمام التغيرات السياسية والاجتماعية داخل مجموعة الأغلبية. هل نستطيع أن نقولَ -صادقين مع أنفسنا- إن هذا الحدّ مِن الأمان متوفرّ الآن؟ هل الفظائع مِن مشاهد آلاف القتلى مِن أبناء شعبنا في غزة والأراضي المحتلّة -غالبيتهم من النساء والأطفال الأبرياء- باستعمال أشد أنواع الأسلحة فتكًا، لا تَجعَلُ أيّ شعورٍ بالأمان وهمًا؟ هل المواطَنَة المبنيّة على الخَوف- وليس الأمان- هي مواطَنَة أم نوعٌ آخر مِن العلاقة مع الدولة يَجب أن نحدّده ونُسمّيه كما هو بدون إسقاط رغبةٍ أو افتراضَ واقعٍ لنحمي أنفسنا مِنَ التفكير بإمكانات لسيناريوهات قاتِمة في جوّ مشحون ومُشبع بِكَم هائل من تعابير الكراهية والاستعلاء وبشكل يوميّ يُشرعِن الفاشية، بل ويحتَفي بِها عَلَنًا؟ هل المواطَنَة اليوم فيها عُنصر الأمان الافتراضي يَمنعُ حالة انعدام الرادع الذاتي والانفلات من أي اعتبار كما حَدث في غزة والأراضي المحتلة، مَع الأخذ بالحسبان أن مجرّد كلمة "فلسطيني" هي خُروج على المواطَنَة، بل تحدٍّ لها؟
إن مواطَنَتنا اليوم تراجَعَت في جوهَرها، ليس على مستوى الممارسة فحسب (تحديد حرّية التعبير عن الموقف السياسي والتعبير عن الهويّة)، بَل وبِشكل أخطرَ تراجَعت على مستوى الوعي لأيّ أفقٍ لبناء مشترك حقيقي مع الآخر يُمكّن مِن حَياة أفضل. تفترض المواطنة في ظروفها الحالية أن أفُقنا الوحيد فيها كَفلسطينيين هو أن نعيش الحاضر فقط بانقطاع عَن الماضي في هذه البلاد، والذي يَمتلِكُه المواطنون اليهود حصرًا، وبانسداد أفق للمستقبل والذي هو أيضًا بسيطرتهم التامة كَمَن يمتلكون الدولة والوطن. تَحصُرنا المواطنة الحالية وتُحاصِرنا في الحاضر واليومي، أيّ في حالة صراعٍ على البقاء فقط.
في هذه الحالة وما يَنتُج عنها من ضغوطات على المستوى الفردي والجماعي على حدّ سواء، وفي ظِل غياب أي بديل لهذه المواطَنَة بكلّ محدوديّتها، كيف نتعاملُ معها؟ هنا أود أن أرسم أولًا النِطاقات الأساسية التي نتحرك فيها نحن الفلسطينيين في إسرائيل، التي تحكم حياتنا وأيضًا تشكّل هويتنا، ومِن ثم أقتَرِح فتح هذه النطاقات وتوسيعها والدمج بينها كأَحَد الخيارات لفكّ الحصار الذي تفرِضه المواطَنَة الحالية نفسيًا وعمليًا علينا.
إنّنا نَتَحرّك ونتطوّر على المستوى العمليّ والهوياتيّ مِن خلال التفاعل مَعَ وبين ثلاثة نِطاقات أساسية مباشرة وملتصقة بحياتنا: الأول هو نطاق المواطَنَة الإسرائيلية والحياة إلى جانب المجتمع الإسرائيلي اليهودي وداخِله. إن حياتنا في كلّ مناحيها الاقتصادية والتعليمية والصحية والاجتماعية مرتبطةٌ بمؤسسات الدولة واقتصادها. إن تأثيراتِ تداخُلنا في دورة حياة الدولة ومجتمع الأغلبيّة فيها -حتى وإن كان على هامشها- هائلةٌ ليس فقط على مستوى الاعتماد الكليّ عليها، بل أيضًا على فهمِنا لِذاتِنا وهويّتنا. مُهمّ أن نعترف بهذا البُعد الأخير والتعامل معه. إن هذا النِطاق هو الأكثر فاعليّة بحياتنا لأنه مُتّصل باليومي والاقتصادي، وأيضًا بخوف دائم مِن فقدان منافِعه وامتيازاته.
النطاق الثاني هو نِطاق الارتباط مع شعبنا الفلسطيني وخصوصًا في الضفة الغربية المنفذِ الوحيد لعلاقة متواصلة معه، لكنّها تتسم في الأساس بالانتماء الرمزي بدون تجلّيات فِعلية وعملية له إلا على شكلِ علاقات تجارية استهلاكية الرابطُ فيها غير دائمٍ ومكثف كما حالُ النطاق الإسرائيلي.
تُفسّر هذه الفوارق بين النِطاقَين، إلى جانب عامل الخوف، برأيي، أسلوب التضامُن مع مأساة شعبنا اليوم ومحدوديته، والذي بقي محصورًا في المستوى اللفظي والتصريحي فقط.
والنطاق الثالث هو النِطاق المحلي الداخلي؛ أي نسيج العَلاقات المتضائل والمُعقّد على مستوى البلدات داخليًا، وأيضًا على مستوى العلاقات بيننا كَمجتمع واحد متنوّع تتجاذبه حالات مِن الفخر بنجاحات فردية، وفي المُقابل حالات مِن الإحباط بسبب أزمات داخلية مثل الجريمة والنَعَرات الفئوية.
إنّنا مُطالبون اليوم بِوَضع مواطنَتنا في سياقها الصحيح خصوصًا في علاقتها وتفاعلها مع النطاقين الفلسطيني والمحلي، وذلك بتقويتهما بشكل فِعلي، وعَملي، وبصورة مُمنهجة، ومدروسة. إنه مشروع استراتيجي لمجتمع يريد أن يَفتح نوافذ على نفسه. هذا كفيل بتقليل حدّة الاعتماد الكلّي على النِطاق الاسرائيلي، الأمر الكفيل بخلق توازن مُعيّن - ليسَ مثاليًا- على أصعدةٍ مختلفة، أهمّها ترميم الثقة بالذات، وانتشالِها مِن حالة الانفصام والتأزم النفسي الحالي. إننا نَفتَحُ بذلك أيضًا آفاقًا للفعل السياسي والاجتماعي والاقتصادي لم نقتحمها بسبب حالة الاعتماد التام على النِطاق الإسرائيلي.
عندما أتحدّث عن النِطاق الفلسطيني فإنني أقصدُ بناء روابط ثقافية واجتماعية على مستوى الأفراد والبلدات وتعزيزها بشكل يُترجِم الصِلة مِن صلة رمزية إلى صِلَة أعمق (الحالة اليوم هي حالة انقطاع شبه تام، وعلاقتنا مقتصِرة على التسوّق في مدن الضفة الغربية) وبناءَ علاقات شَراكة اقتصادية أوسع. إن هذا النطاق هو رِئة يَجب أن نَتنفّس منها بشكل أوسع لِنَضخ الأكسجين في هويتنا وانتمائنا.
أما على النِطاق المحلّي فإن تعزيز مبدأي النظام والتنظيم يُشكّل ركيزة أساسية لصمود مجتمعنا في حالة التردي والتفكك المجتمعي الحالية التي تدفَع إلى الاعتماد الكلّيّ على الدولة. فمجتمعنا يعيشُ حالة فوضى وانعدام انضباط في الحيّز العام، مما يخلق شعورًا دائمًا بالغضب والتوتر. وكذلك نعيش حالةَ انعدام فاعليّة حقيقية للمؤسسات المجتمعية، الرسمية والأهلية، في مَجال تنظيم المجتمع واستنفار قواه الداخلية. أحدَثَت هاتان الحالتان -إلى جانب إشكالية العلاقة مع الدولة وضغوطاتها- حالةَ اغترابٍ فَردِيّ ومجتمعي عميق نتائجه السلبيّة رهيبة.
إن البحث عن نقطة التوازن والمسافة المثلى بيننا وبين الدولة والمواطَنَة منوطٌ الآن بتعزيز هذين النِطاقين، بدون الانكفاء على الذات مقابل المواطَنَة والتقليل من أهميّتها، لكن بما يتيح لنا أن نأتي إليها مُحصَّنين وواثقين أكثر، وليس بمنطق أن ظَهْرَنا إلى الحائط.