بمناسبة يوم الشباب العالمي بودي التأكيد على أن انقطاع الجيل الجديد عن ماضيه فيه خسارة وضياع، وتكريس الماضي بدون تجديد فيه جمود وركود. لكي ينمو مجتمعنا ويتطور على الجيل الجديد اصطفاء ما هو صالح ونافع للحاضر والانقطاع عما هو ضار وعقيم. 

في مسيرة آبائنا وأجدادنا هناك الكثير مما ينفع الحاضر وكثير مما انتهت صلاحيته ويجب تحاشيه. سأكتفي هنا بثلاثة دروس مشتقة من تجربتنا من شأنها ترشيد مسيرة الجيل الصاعد في هذه البلاد.

الصمود في الوطن والتمسك بالهوية والابتعاد عن الخضوع أو الشعارات الرنانة

بقاء آبائنا وأجدادنا وصمودهم يعتبر إنجازاً هاماً أمام هول النكبة التي أسفرت آنذاك عن تهجير ما يقارب 85% من شعبنا وهدم أكثر من 500 قرية عربية، ثم إخضاعهم فور ذلك للحكم العسكري لعقدين ظلوا يعانون خلالهما من الفقر والضياع. تمسك آبائنا بالهوية القومية والتاريخ واللغة هو إنجاز آخر أمام سياسة التجهيل والعدمية القومية التي مورست من قبل الدولة في محاولة لإذابة الأقلية الفلسطينية الباقية في وطنها ضمن الأغلبية اليهودية المهاجرة والزاحفة إلى وطننا. 

هكذا وصلنا لنكون اليوم أكثر من مليون ونصف مواطن عربي فلسطيني في إسرائيل يشكل بقاؤنا في وطننا الإخفاق الأساسي وربما الوحيد للمشروع الصهيوني. إذا صمد آباؤنا وأجدادنا وتمسكوا بهويتهم ولغتهم في أقسى الظروف التي تلت النكبة، ووصلوا اليوم ليشكلوا قوة سياسية مؤثرة في الساحة السياسية الإسرائيلية، فحتماً يستطيع جيل الشباب مواصلة هذا التمسك وترشيد خطاه في خضم التناقضات الجارية في داخل الحركة الصهيونية وفي داخل الدولة.

لم تكن مسيرة شعبنا أحادية بل كانت هناك فئات مغامِرة ومزاوِدة رفعت شعارات رنانة بدون تغطية مدفوعة بشكل حصري بمنطق الحق دون حساب الجدوى. ومن جهة أخرى، كانت فئات متعاونة مع السلطات الإسرائيلية بدافع البقاء أو بدافع نفعي متجاهلة الحقوق القومية لشعبنا. لكلا الاتجاهين تفسيرات وتبريرات مشتقة من طابع المرحلة السابقة، لكن علينا اليوم، ونحن في مرحلة أخرى، أن نراجع جدوى هذين التيارين. الحقيقة أن القوى السياسية الفاعلة في مجتمعنا اليوم (جبهة وتجمع وحركة إسلامية) تسير في الغالب بعيداً عن الشعارات الرنانة وبعيداً عن الخضوع.

هناك مكان وضرورة للتعددية والاجتهاد دون تخوين، ولكن يجب أن تبقى ماثلة أمام أعيننا أهمية توحيد قوانا وصبّها أمام أعداء شعبنا على أساس قواسم مشتركة، تخص بقاءنا وحقنا في المساواة والكرامة، وتحاشي المناكفات والمزاودات وشق الصفوف. 

التكافل الاجتماعي ورعاية العائلة والأبناء والابتعاد عن الحمائلية والطائفية والتعصب الذكوري

بعد النكبة وتشتيت شعبنا كانت الوحدة العائلية والحمولة مصدر الدعم الأساسي الذي ساهم في البقاء والصمود. لا يخفى على أحد شقاء أجدادنا وآبائنا وأمهاتنا لتوفير المسكن والقوت واللباس بعيد النكبة وتعبهم وتضحياتهم من أجل تعليم أولادهم وبناتهم. نحن نفخر اليوم بنسبة الطلاب العرب في الجامعات والكليات وبنسبة الأكادميين في مجتمعنا وبالأطباء العرب الذين يملؤون المستشفيات والعيادات وبشباب لامعين في مجال الهايتك. كل هذا حصل ليس بفضل الدولة، بل بالرغم منها، وفي الأساس بفضل جهود أجدادنا وآبائنا الذين فضلوا تعليم أولادهم وبناتهم على أساسيات الحياة الأخرى. وفي هذا السياق لا يمكن إغفال دور المؤسسات الدينية في بقاء شعبنا وتعليم الأجيال الصاعدة ودور بعض رجال الدين في الحركة الوطنية.

من جهة أخرى، رافق تماسك العائلة والحمولة العربية مظاهر يجب الحذر منها، إذ تركت آثارها السلبية في مجتمعنا، منها التعصب الحمائلي والطائفي الذي ضرّ بوحدة شعبنا ومسيرته بل وأودى أحيانا بالأرواح والممتلكات على خلفية نزاعات حمائلية وطائفية. يترك هذا التعصب أثره السلبي في انتخابات السلطات المحلية بحيث تطمح كل عائلة للاستحواذ على السلطة لمصلحتها هي غير آبهة بمصلحة البلد العامة. 

لم يكن دور المؤسسات الدينية ورجال الدين في مصلحة كل شعبنا ووحدته دائماً، بل كانت وما زالت تيارات دينية طائفية متعصبة تدعو لتكفير الطوائف الأخرى وتعاديها، بدل التحالف معها والتأكيد على وحدة المصير أمام التمييز العنصري الإسرائيلي الذي لا يميز بين مسلم ومسيحي ودرزي. 

في ظل التكافل الأسري والحمائلي والطائفي كانت هناك مواقف وممارسات ذكورية شوفينية ضد المرأة تصل أحياناً إلى قتل المرأة على خلفية ما يسمى جوراً "شرف العائلة". ما يدعو للارتياح النسبي أن هذه المواقف والممارسات آخذة في التراجع، ولو كان بطيئاً. وعليه نرى اليوم نساء قائدات في كثير من المجالات وأكاديميات متخصصات وعدد الطالبات الجامعيات العربيات يفوق عدد الطلاب الجامعيين الذكور. ونرى تراجعاً نسبياً في القتل على خلفية ما يسمى "شرف العائلة".

المسؤولية الذاتية والسيادة على الذات والابتعاد عن دور الضحية العاجزة

في مسيرة شعبنا هناك نقطة تحول أساسية حصلت في السبعينات بعيد نكسة حزيران 1967. حتى النكسة كان شعبنا الباقي في وطنه ضحية عاجزة يكافح من أجل بقائه ويعول على الدول العربية بتأثير التيار القومي، وعلى رأسه عبد الناصر، ويعول على الرأي العام العالمي والدول الأشتراكية لإنقاذه. نكسة 1967 جعلت شعبنا يصحو من وهم الاعتماد على الآخرين وباشر الإمساك زمام الأمور بيده وتجميع ما لديه من طاقات ليدافع بنفسه عن بقائه وعن الأرض في يوم الأرض سنة 1976. لقد كانت ظروف فلسطينية وعالمية مؤاتية في السبعينات كما بدأت تتبلور من جديد فئات وتنظيمات محلية جمعت العمال والفلاحين والمثقفين والنساء والطلاب ليتوحدوا معاً، بقيادة الحزب الشيوعي وتيارات وطنية أخرى، آخذين مصيرهم بأيديهم دفاعاً عن أراضيهم في يوم الأرض الخالد. لقد كان هذا اليوم نقطة تحول نحو المسؤولية الذاتية، تلاها إسقاط عملاء السلطة في عدد من القرى العربية، وبعدها تأسيس أحزاب وطنية جديدة تعمل كلها من أجل حقنا في المساواة القومية وفي مواجهة العنصرية. هكذا خرج شعبنا في السبعينات من عجزه وأخذ مصيره بيديه وأحدث تحولاً في مسيرته. 

قضية المسؤولية الذاتية قضية هامة جداً تخص مختلف مناحي حياتنا الاجتماعية والشخصية، خاصة أن هناك ميلاً سائداً في مجتمعنا لعزو حالنا إلى عوامل خارجية وإغفال العوامل الذاتية. الاستعمار وهيمنة الغرب والصهيونية والتمييز العنصري لا يعتبر تفسيراً كاملاً لحالنا، لأن حالنا يتعلق أيضاً بكيفية مواجهتنا لهذه العوامل الخارجية. لأن كيفية مواجهة الواقع والظروف تحدد النتيجة. في أي ظرف يبقى للإنسان حيز من حرية الاختيار والسيادة على الذات. السجناء مثلاً، وبالرغم من ظروفهم القاسية والمحدودة، يختارون ويمارسون سيادة كاملة على أنفسهم (لا على ظروف السجن) فبعضهم يقرر أن يخطط للهرب، وبعضهم يُضرب عن الطعام، وبعضهم يتعلم للقب أول، وبعضهم يتعلم مهنة، وبعضهم يكتئب، وبعضهم ينتحر، وبعضهم يساير السجان للحصول على تسهيلات وغيرها من الاختيارات الممكنة من وراء قضبان السجن.      

شبابنا لا يعيشون في ظروف السجن وإن كانوا يعيشون في واقع ليس يسيراً، ومع هذا كثيراً ما نسمع عبارات تنم عن تنصلهم من المسؤولية الذاتية وعزو حالهم إلى عوامل خارجية. نسمع، على سبيل المثال، عبارات من قبيل: تأخرت بسبب حركة السير، لم أقدم الوظيفة للجامعة بسبب عرس أختي، سقّطوني في الامتحان، الحياة مملة فليس في بلدي نواد للشباب وأماكن للنزهة، تشدُّد أهلي يخنقني، تعامل الآخرين معي يجرحني وغيرها من الأقوال التي تعزو حال الشخص إلى الظروف بشكل حصري وتلغي مسؤولية الشخص عن نفسه (لغة المذكر هنا يقصد بها المؤنث أيضاً). 

عزو حالنا ألى الظروف هو أكذوبة لا بد من كشفها. الظروف تفعل فعلها الحصري على الجماد: فوضع حجر في مكان ما يبقيه هناك دون حراك، ودفع جسم بقوة كافية تفوق احتكاكه بالسطح لا بد أن تحركه. الجماد لا يتحلى بالعقل والإرادة والسيادة. هكذا هو الأمر أيضاً فيما يتعلق بالنبات والحيوان فهما أيضاً لا يتحليان بهذه النعم. أما الإنسان فيتحلى بشكل حصري بقدرة على التفكير وتقييم وضعه واتخاذ قرارات ويتحلى بإرادة تجعله يعيد النظر ويمارس سيادته على نفسه واختيار اختياراته وهكذا بإمكانه التأثير على حاله ومصيره ولا يبقى ضحية عاجزة تشكو من الظروف.

بإمكان شبابنا جعل حياتهم ومستقبلهم مختلفين عن حياة أجدادهم وآبائهم إذا هم تمسكوا بالهوية القومية دون أن يخضعوا، من جهة، ودون أن ينجروا نحو شعارات رنانة بدون تغطية، من جهة ثانية، وإذا اهتموا بعائلاتهم وانتماءاتهم دون تعصب شوفيني وذكوري، وإذا تحلوا بمسؤولية ذاتية ومارسوا سيادتهم على أنفسهم وابتعدوا عن التذرع بالخارجي سبباً حصرياً للظروف.  

بروفيسور مروان دويري

أخصائي نفسي علاجي وطبي وتربوى ونمو، وباحث في علم النفس العابر للثقافات

سريا دويري يمعان
كلماتك حواهر يحب غرسها لجيل اليوم
الأربعاء 2 آب 2023
شاركونا رأيكن.م