حينَما تُصادَر الكَلِمَة: حُرّية التّعبير في زَمَن الحَرب...

في كلّ حَرب، يُفترض أن تُخرِج الشعوب أسوأَ ما فيها، وأفضَل ما فيها. في السياق الفلسطيني، لم تكن الحرب فقط على الأجساد، بل امتدّت إلى المَساحات، إلى الوعي، إلى الحريّة نفسها. وَسَط الخَراب والقلق والدّم، يقف الشّباب الفلسطيني في الضفة الغربية ليُجابه سؤالًا مريرًا: هل يُمكن أن تكون حرًّا في زمنٍ لا يَحتمِل الكلام؟

على مدار ما يزيد عن واحدٍ وعشرين شهرًا، لم تكن الحرب في غزة بعيدةً عن الضفة الغربية؛ بل مرّت من بين حواجزنا، ومن عيوننا، ومن جدراننا الافتراضية. لم يواجِه الشّباب هنا فقط صور المَجازر والرّكام، بل طاردتهم خوارزميّات القَمع، وتقلّصت مساحات التّعبير حتى أوشكت على التّلاشي. منذ لحظة النشر الأولى على فيسبوك أو إنستغرام أو تلغرام، تتحوّل الكلمة إلى تُهمة، والتّضامن إلى اشتباه، والصوت إلى خطر. بل بات الهاتف المحمول نفسه أشبه بعبءٍ دائم، يُفتَّش بحثًا عن منشورٍ عابر، أو تعبيرٍ عن رأي، قد يُحوَّل إلى لائحة اتهام.

في كلّ جامعة، وفي كلّ حراك طلابي، أصبح الحَذَر هو اللغة الرسمية. شُبان يتم استدعاؤهم بسبب منشور، لأنهم كتبوا "غزّة تنزِف". دفع بعضهم ثمن مشاركته في وقفة تضامنيّة أو نشر صورة لطفل شهيد. هكذا، تصبح حريّة التّعبير مكبّلة بقيود أمنيّة، وتجري محاصرتها تحت مسمّيات غامضة مثل "التحريض" أو "المَساس بالنظام العام".

لكنّ هذه الحرب كَشَفت في الوقت نفسه عن شَجاعة استثنائية. شَباب وشابات -رغم التضييق- وجدوا في منصات التواصل متنفسًا للمقاومة الرمزيّة، ووسيلة لحفظ الرواية، وصوتًا بديلًا عن الصّمت المفروض. ولعلّنا اليوم نشهد نضوجًا جديدًا في ممارسة حريّة التعبير: أكثر وعيًا، وأكثر مسؤوليّة، لكنّه لا يَقِل تحديًا. فالرقابة تُقابَل بابتكار، والخوف يُجابَه بالتصميم، وهذا ما يدفع إلى مساءَلة أعمق حول معنى الدفاع عن حرية التّعبير في سياق احتلال استثنائي.

من منظور القانون الدولي، فإن الحقّ في حريّة التّعبير مكفول صراحة في المادة (19) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنيّة والسياسية لعام 1966، التي تضمن لكلّ فرد حريّة اعتناق الآراء دون مضايَقَة، وحريّة التِماس المعلومات وتلقّيها ونَقْلها بأيّ وسيلة كانت. وقد أكّدت لجنة حقوق الإنسان في تعليقها العام رقم 34 (2011) أن مجرّد التّعبير عن التضامن السياسي أو النقد السِلمي لا يجوز تجريمه، وأن القيود يجب أن تكون ضرورية ومتناسبة.

أما في زمن الاحتلال، فإن اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949 تُلزم دولة الاحتلال باحترام الحقوق الأساسيّة للأشخاص الواقعين تحت الاحتلال، بما في ذلك حريّتهم الفكرية وحقّهم في التّعبير. مع ذلك، فإن الاحتلال الإسرائيلي يوظّف مصطلحات فضفاضة كـ "التحريض" و"الإخلال بالأمن" لتجريم التّعبير السلمي، وهو ما يُعد خرقًا لالتزاماته القانونية، ومحاولة ممنهَجة لقمع الرواية الفلسطينية وتجريم الذاكرة.

إذا كانت حرية التّعبير تمثّل حجر الأساس لأيّ مساءلة أو تحوّل ديمقراطي، فإن تقييدها يُعد بمثابة نزعٍ لأحد شروط الوجود السياسيّ للفرد. في الحالة الفلسطينية، بات الدفاع عن هذا الحق ضرورة نضالية وحقوقية في آنٍ واحد. ليس فقط لحماية الشباب من الملاحقة، بل لضمان بقاء نافذة مفتوحة للحقيقة.

تَستخدم سلطات الاحتلال أدواتٍ متعدّدة لقمع حريّة التعبير، تبدأ بالملاحقة الرقميّة ولا تنتهي عند الاعتقال الإداري. يُعامل الفلسطيني الذي يكتب أو يوثّق أو يحتج، بوصفه تهديدًا أمنيًّا، لا مواطنًا يُمارس حقه. وقد شهدنا في الشهور الماضية تصاعدًا في استدعاء النشطاء على خلفية منشوراتهم، واقتحام البيوت لمجرد تعليقٍ على فيسبوك، واعتقال طلابٍ جامعيين لأنهم نظّموا ندوة أو علّقوا لافتة. ليست هذه السياسات طارئة، بل هي امتداد لمنظومة احتلال ترى في الكلمة بذرة تمرّد، وفي الصورة وثيقة إدانة. كلّ ذلك يجري وسط صمت دوليّ مريب، وتواطؤ ضِمني يَسمح بتحويل حرّية التعبير من حقّ إنساني إلى جرم يُبرر القمع.

في هذا السياق، تتحوّل حرية التّعبير من حقّ فردي إلى معركة جَماعيّة، ومن مساحة قانونية إلى ساحة مواجهة يومية، يدفع فيها الشباب ثَمَن تعبيرهم عن أوجاعهم وتضامنهم، لا بمداد الحبر، بل بمداد التحقيقات والاعتقالات وربّما كَتْم المسار المهني والحياتي. مع ذلك، لا يُنهي القمعُ الصوتَ بل يُعيد تشكيله، ويدفعه إلى التّحايل، وخلق منابر بديلة وشبكات سرد تقاوِم بالعاطفة والذاكرة والشَّهادة.

إنّ حرية التّعبير حين تفقد حمايتها القانونية، تستمدّ شرعيّتها من صمود الناس. ليست هذه اللحظة الفلسطينية فقط اختبارًا للنصوص القانونية، بل امتحانًا لضمير العالم والقدرة الجمعيّة على النجاة من نُظم تخشى الحقيقة وتخنِق الخَيال. وفي كلّ مرة يُعتقل فيها شاب لأنه كتب، علينا أن نسأل: ماذا بَقِي من الوطن إن لم يتّسع لِكَلمة؟

د. بدر زماعرة

باحث في القانون الدولي والمدير التنفيذي لمنتدى شارك الشبابي.

رأيك يهمنا