ما بَينَ الحَرب والصَّمت: الكَلِمَة التي لا تَمُر

ما بَين الصَديق الذي يَرفض الكلام عن الحَرب وبيني، هناك طريقٌ طويل يَفصل بين الكلمات والشّحَنات. حتى وإن قُلت: "لا تَقلق"، فإنيّ أكذب عليه وعلى نفسي، لأن الواقع لا يَخلو من الدّلالات على ذلك. فالحرب، بكلّ أشكالها، تترك آثارًا على الأجساد وفي العقول، وفيما نَحْن نَمتنع عن التّصريح عما يعترينا من آثارها، يظلّ الصّمت أشَد قسوةً من الكلام. أنا لست بالمُواجه الأكبر، لكنّي في الوقت ذاته، لستُ بالصّامت الأكبر.

ومِن هنا، نَنتقل إلى إحدى أكبر معارك السّكوت والكلام وأبرزها: معركة الصّوت في العَصر الرقميّ، حيث يَسعى العديد من الفلسطينيين والعرب والمناصرين لكَسْر حاجز الصمت، إلّا أن الرّادع لم يكن من الحكومات العنصريّة فقط، بل أيضًا من الشركات الرقميّة الكبرى، التي شاركت في هذا العِقاب القامع للصوت.

كشف تقرير حملة "هاشتاغ فلسطين 2023" عن 4,400 انتهاك للحقوق الرقميّة على منصات التواصل الاجتماعي، حيث وَقَع %69 من هذه الانتهاكات بعد بداية الحرب على غزة. شملت هذه الانتهاكات حذف المحتوى، وتقييد الحسابات، وتعليقها. من جِهة أُخرى، رَصد مركز الحملة أكثر من 10 ملايين منشور يتضمّن محتوى عنيفًا، وهو ما يثير العديد من الأسئلة حول المعايير المزدوجة التي تعتمدها هذه المنصّات في التّعامل مع المحتَوى الفلسطيني والعنيف الذي يستهدفهم.  كشف تقرير حملة "هاشتاج فلسطين 2024" أيضًا أنّ 40% من الشباب والشابات حَذَفوا منشوراتهم، بينما خفّض 50% من نشاطهم على الإنترنت بسبب مراقبة منصات مثل "ميتا". أدّى ذلك إلى تآكُل المساحات الرقميّة الآمنة للتعبير عن الرأي، ما يعكس بيئةً متزايدةَ القمع. وكَشف التقرير الخوف المتزايد والرقابة الذاتيّة بين الشباب الفلسطيني بسبب تدهور الأمن الرَقَمي، حيث قال 60% إنّهم يمارسون رقابة ذاتيّة على نشاطهم الرقمي، مما يؤدي الى تذويت القمع.

التّمييز الرَقَمي: حالة "ميتا" نموذجًا

إن منصات مثل "ميتا" - المالكة لفيسبوك وإنستغرام - قد مارست التّمييز بشكل صارخ ضد المحتوى الفلسطيني، لاسيما باللغة العربية. إن شركة "ميتا" على رأس الشّركات التي تمارس الرّقابة، وحتى بعد التحسينات التي تعهدت الشركة بإنفاذها إثر تقرير العناية الواجبة الذي أنجزته منظَّمة الأعمال من أجل المسؤولية الاجتماعية. على الرغم من استثمار "ميتا" الكبير في "مصنّف المضامين" (Content Classifier)، الذي يتعامَل مع المحتَوى العربي، فإن هذه التقنيّة لم تكن فعّالة بما فيه الكفاية في تصنيف المحتوى العدائي باللغة العبرية. حسب الوثائق الداخليّة لـ "ميتا"، كان هناك فشل واضح في مواجهة المحتوى العدائيّ باللغة العبرية، في حين تمثَّلت الإجراءات المتَّخَذة تجاه المحتوى الفلسطيني في: حذف المحتوى، وتعطيل الحسابات، وتقليل الوصوليّة، وفَرض القيود على الصفحات والمجموعات. مثالًا على ذلك، أجرت "حملة" تجربة على منصّة فيسبوك، شملت النشر والترويج المدفوع لمنشورَيْن عنيفَين يدعوان للقتل، أحدهما باللغة العربية والآخر باللغة العبرية، وفي حين تمّت الموافَقة على المنشور العبري، تم رفض العربي بدعوى مخالفة معايير مجتمع فيسبوك. تُظهر التجربة بِعُمق الفجوة في تطبيق سياسات "ميتا" بعدالة ومساواة على اللغتين، وبالتالي تقصير الشّركة في حماية المستخدمين الفلسطينيين والعرب.

يعود تاريخ ممارسات "ميتا" التمييزيّة تجاه الفلسطينيين إلى سنوات عديدة سابقة. نَشَر مركز حَملة في العام 2018 تقريرًامفصلاً عن ممارسات الإدارة غير العادلة في فيسبوك، التي أَثّرت بشكل غير متناسب على المحتوى الفلسطيني. ساء الوضع في عام 2021 خلال أحداث حيّ الشيخ جرّاح، حيث تمّ الإبلاغ عن ارتفاع في انتهاكات الحقوق الرقميّة على منصات "ميتا" على نطاق واسع. كانت الأدلة على هذا القمع كثيرة، حيث تمّت عمليات إزالة جماعية لمنشورات، وتعليق حسابات، وحظر الظل Shadow Ban)).

في العام 2022، كلّفت "ميتا" "شركة الأعمال من أجل المسؤولية الاجتماعية" (Business for Social Responsibility- BSR) بإجراء تقرير بعنوان "العناية الواجبة بحقوق الإنسان لتأثيرات "ميتا" في إسرائيل وفلسطين في أيار 2021". كانت نتائج التقرير دامِغة، وكَشَفت أن سياسات "ميتا" وإجراءات الإنفاذ التي اتبعَتها قد أثّرت سلبًا على حقوق الإنسان للمستخدمين الفلسطينيين والعرب، بما في ذلك انتهاكات حرية التعبير والتجمع والمشارَكة السياسية وعدم التّمييز، وخلُص التقرير إلى أن أنظمة الإشراف على المحتوى في "ميتا" كانت أكثر عدوانيّة تجاه المحتوى العربي، في حين مرّ التّحريض والدّعوات إلى العُنف باللغة العبرية دون رادِع، إلى حدّ كبير.

يَعكِس هذا التّباين في التصرّفات من المنصّة بشكل جليّ سياسات متحيّزة، حيث ظل فيسبوك وإنستغرام يتبَعان نهجًا صارمًا ضدّ الأصوات المناصِرة، في حين أن منصات أخرى مثل تيك توك أظهرت درجة من التوازن، لكن مع تصاعد الضّغط على الشركة، أصبح من الواضح أن الأصوات الفلسطينيّة تتعرّض أيضًا للتضييق. أما منصّة "إكس" (Twitter سابقًا)، فهي برغم رفع بعض التقييدات على المحتوى الفلسطيني، فلا تزال تمثل أرضًا خصبة للتّحريض، وخطاب الكراهية، ضدّ الفلسطينيين، ما يفتَح المَجال أمام المَزيد من العنف والتّحريض. 

أصواتٌ تُسمَع وأُخرى تُكَمّم

تكشِف هذه السياسات التي تتبعها شركات التكنولوجيا الكبرى بوضوح كيف أن تلك المنصّات تتحوّل من مجرَّد أدوات تواصل اجتماعي إلى أدوات خفيّة للمراقَبَة والرّقابة. بالمقابل، يمكننا سماع التّحريض ضدنا تقريبًا في كلّ الأخبار والتعليقات التي نشاهدها ونقرأها باللغة العبريّة، ويبدو أنّ هذه الأصوات تجد لنفسها سبيلًا للتعبير بحريّة في الفَضَاء الرّقمي بينما تَنشُر الحظر على آخرين. يتجلّى ذلك بوضوح في تقرير "حملة" "مَحْو وقَمْع"، الذي يوثق عشرين شهادة مباشرة لمؤثرين وصحفيين ومؤسسات إعلامية فلسطينية، تعرضوا لممارسات تمييزية من قِبل شركة "ميتا". ترسم هذه الشهادات صورة حية لتأثير الرقابة، من تقييد الوصول إلى الجمهور وقطع مصادر الدخل، إلى الاضطراب النفسي وتنامي الرقابة الذاتية. وتُظهر هذه الروايات الجماعية الأثر المدمر لسياسات "ميتا" على المجتمع الفلسطيني، مما يؤكد الحاجة الملحة إلى محاسبتها والمطالبة بتغيير منهجي في تعاملها مع المحتوى الفلسطيني.

ختامًا، إن المشهَد الرقميّ في ظل النزاعات لم يَعُد محايدًا كما يُزعم، بل بات يشكّل ساحة أخرى من ساحات المعركة، حيث تُخنق أصوات ويُسمح لأخرى بالهَيمنة والتّحريض. مع توثيق آلاف الانتهاكات، بات واضحًا أن حرّية التّعبير ليست مضمونة للجميع على قدم المساواة، بل تَخضَع لمعايير مزدوجة تُقرّرها الشّركات الكبرى وأجنداتها. وَمَع غياب الشّفافية والمساءَلة، تُصبِح هذه المنصّات شريكة فعليّة في إدامة الظُلم، لا مجرّد وسيط محايِد.

حلا طه

ناشطة ومنسِّقة رصد وتوثيق في مركز "حملة".

رأيك يهمنا