حُريّة و"رَبْطَة" خُبز؛ هَل نَستَطيع؟

 مَشاهد وأسئلة حول مؤتمر "حرّية" الأول

منذ أن عرَفت نفسي وأنا أمارس السؤال؛ لا بل وأنا أعترف بأنني أحبّ السؤال. وقد دأبت على امتهان ممارسة هذا الحبّ في لقاءات جماعية، شخصية، مهنية، سياسية وجماهيرية، وضمن اكتشافي المتجدّد لنفسي أدركت مع الوقت صحة الفرضية القائلة: إن أغلب الأسئِلة المُتقاذَفة بين الحوارات تكون في العادة غِطاء لمقولة أو موقف أو حتى لغاية حرف النقاش أو تثبيته في مساره الصحيح وفقًا لوجه نظر مطلقة.  

 في اليوم العالمي للتّضامن مع الشعب الفلسطيني وفي مؤتمر "حرّية" الأول-وهو وفقًا لتعريف المنظِّمين "بادرة تأسست من قبل مجموعة من الناشطين والناشطات الفلسطينيين في الداخل بهدف زيادة الوعي حول سياسات الاحتلال وتعميق فهم تأثيرها على مختلف الجوانب الحياتية للفلسطينيين في المناطق المُحتلة"- ينطلق المنظِّمون من أنهم مدركون لعمق تأثير سياسات الاحتلال القمعيّة واستمرارها على حياة الفلسطينيين في مختلف المناطق الجغرافية، وأنهم واعون لأنّ "هذه الممارسات تتفاوت وتختلف تجاه كلّ مجموعة فلسطينية بحسب موقعها وظروفها".

يأتي هذا المؤتمر الأول ضمن المسعى لرفع الوعي بضرورة إنهاء الاحتلال من خلال تنظيم فعاليات وأنشطة وأوراق سياساتيّة تستهدف الشباب وفئات أخرى من المجتمع، بهدف بناء جسور تواصل وتعزيز الروابط والتقاطعات بين المجموعات الفلسطينية المُختَلفة.

وربما تكون هذه المبادرة المدنيّة العربية الوحيدة التي تعنى بموضوع الاحتلال مباشرة وتضعه في مركز عملها، نشاطها وأبحاثها، وهذا يوليها أهمية إضافية في إرساء أسس النقاش والحوار والنشاط في هذا المضمار. يُشكل توقيت إطلاق المؤتمر والنقاشات التي كانت فيه وحوله نقاطًا مفصلية في رسم مساحات النقاش ووضع أسئلة جديدة في سياق جديد في ظلّ الحرب وتبعاتها على الفلسطيني في كلّ أماكن تواجده.

لأهمية المؤتمر في هذه المرحلة الحسّاسة بالذات، تأتي مشاهدتي هذه من باب النقد الموضوعي، بهدف إثراء النقاش الجماهيري في قضايانا السياسية الحارقة. ولهذا سأشارككم مَشاهدَ عشتها في يوم الجمعة الأخير.

المَشهد الأول: منصّة المُتابعة

يستفرد رئيس لجنة المتابعة بالمنصّة الأولى، ويستفرد الصحافي وائل عواد بأسئلة كان بعضها مُربكًا لمحمد بركة، تناقلت بين دور لجنة المتابعة في الحرب، وملاحظات الشارع وانتقاداته على أدائها وعلى سقف توقّعاتهم منها. أكثر ما كان لافتًا في نظري هو التصريح الذي أطلقه محمد بركة بقوله: "لجنة المتابعة لا تمثّلني!"، فابتسم من ابتسم، واستنكر من استنكر، وسأل من سأل في نفسه مثلي، حتى عرّف بركة لجنة المتابعة على أنها المساحة التي يستطيع الوقوف عليها أكبر عدد من ممثلي الجماهير العربية. وجّه بركة بمساعدة محاوره نقدًا للمثقفين غير المُنخرطين في العمل السياسي المباشر، والقابعين بين ثنايا صفحاتهم الافتراضية. فكان السؤال الموجّه له من يافعٍ جلس خلفي: "أُريد أن استبدلك يومًا، كيف أفعل ذلك؟". لم يولِ بركة لسؤال اليافع اهتمامًا ملحوظًا في إجابته، وانطلق مسرعًا نحو عمان ليشارك في مؤتمر آخر.

المشهد الثاني: منصة الأكاديميين

أكاديميّتان وأكاديمي يتوسَّطُهما؛ د.رلى هردل، د.محمد خلايلة ود. سماح خطيب أيوب، وتحاورهم الصحافية شيرين يونس، تتقاذف على المنصة فرضيات من العلوم الاجتماعية والسياسية، وتَهوي الاستبصارات المَعجونة بالاستعارات والصياغات العربية البليغة على عُقول الحاضرين وقلوبهم. وشيرين هذه، تدكّ الأسئلة دكًا كأنها أوتاد تثبّت خيمة النقاش المتطايرة في الرياح. لم تتخل الدكتورة سماح خطيب أيوب -وهي مديرة للجنة متابعة قضايا التعليم العربي- عن دورها في وضع السياق التربوي ضمن السياق السياسي العام، وعن خطورة المرحلة، كعادتها.

تثور جَلَبة غير مفسّرة بين الحضور حين يطرح الدكتور محمد خلايلة طلبه بأن يعلو صوت السؤال عن مسؤولية "حماس" في هذا الوضع الذي وصلنا إليه، وعن الحاجة لتعزيز قُدرتنا على النّقد بعيدًا عن خطاب التخوين والتكفير، بل بالقياس الموضوعي والعقلاني للأمور. صفّق البعض وامتعَض البعض، وسألت نفسي: هل نستطيع؟

المشهد الثالث: منصة السياسيين والقانوني

يُناور جاكي خوري في محاوَرَة السياسيّين والتعامل مع نزعاتهم الزئبقية، لكشف تهرّب بعضهم من بعض أسئلته الصعبة، ليحشُر في ثلاث زوايا الغرفة ممثلي تيارين سياسيين مركزيين وممثلة عن حزب سياسي؛ أمجد شبيطة عن الجبهة، بكر عواودة عن التجمّع، وسندس صالح عن الحركة العربية للتغيير. على الشاشة الكبيرة وعبر الزوم يطلّ بقبعته المشهورة من أمريكا حسن جبارين مدير مركز عدالة.

يهب أمجد شبيطة دفاعًا عن دور الجبهة في التصدي للحرب، ويكمل روح الخطاب الذي أتى به بركة مشدّدًا على ضرورة مراجعة الذات، الوحدة، التعاون، الشراكة وباقي الشعارات التي ضاقت بها القاعة والحضور. يوجه أمجد تذكيرًا للتجمع بأن يردّوا على توجّه الجبهة لهم بهدف تحقيق المصالحة! يستل بكر عوادة أكثر من مرّة ورقة غير مكتوبة يعمل التجمّع على إعدادها ويلوّح بها وكأنها صك غفران يعرضه ليدرأ صوت الاتهام عن حجم مسؤولية التجمّع عن حرق آلاف الأصوات، وعن تَشكُّل الحكومة الأخيرة كما لكمه جاكي! وتقف سندس صالح لتكرر برتابة أهمية الشراكة العربية اليهودية وبعض الجُمل المنسَّقة. يسرد حسن جبارين ويعدد الممارسات القانونية الإسرائيلية الموجهة ضد الجماهير العربية تحديدًا، ويعطينا أملًا بسيطًا في التحولات القانونية التي تحدث في العالم وفي الهيئات الدولية والحراك في الجامعات الأمريكية. لم أكتم سؤالي هذه المرّة ومِلت على رفيقي الغريب والصامت الجالس قربي وهَمست: هل هذه المقابلة مُسجلّة قبل تولي ترامب الرئاسة؟  

وكما في المناظرات الانتخابية، صفّق بعض الحاضرين لممثل تياره وبعضهم امتعض وبعضهم مثلي سأل عن اختفاء تمثيل تيار أساسي ومركزي في السياسة العربية في هذه المنصة؛ الحركة الإسلامية بشقّيها، راغبًا وطامحًا وربما حالمًا بأن هذه الإبادة ستدفعنا وتمكّننا من الجلوس أخيرًا على طاولة واحدة بتياراتنا الفكرية المختلفة واجتهاداتنا لنحاول الإجابة على سؤال المؤتمر "دور المجتمع الفلسطيني في ظل المستجدات". ولكن للأسف جاء الرد سريعًا من منظمي المؤتمر بأن "الموحَّدة" رفضت المشاركة في هذا المؤتمر. رمقتني نظرات بعض الرفاق، فَهِمت منها استغراب بعضهم من سؤالي، واتهام بعضهم الآخر لي بالتقرّب من التيار الإسلامي! فسَكَتّ وسألت نفسي: هل نستطيع أن نتجاوز ذلك يومًا؟ 

المشهد الرابع طاولة مُستَنيرة ومُستَديرة

طاولة مستديرة يحتشد حولها الرجال والنساء، تُيسّرها بشغف د.فاخرة هلون، لتطرح سؤال النقاش المطروح علينا: "دورنا في الحلول السياسية المستقبلية وانهاء الاحتلال"، ليتعاقب الجمع على الإدلاء بآرائهم  ومواقفهم وطروحاتهم، تُطلق التنظيرات في الهواء والجمل تُتَقاذف ككرات لهب تبتعد عن منجنيقها. شُحِنت من كميّة الاستعارات والبلاغة، من الحُرقة والمسؤولية، فطلبت المشاركة وسألتُ بصوت عالٍ عن حجم ووسع الـ "نا" في كلمة دورنا، كشرط للإجابة على سؤال الطاولة، سألتُ بعدها عن حاجتنا لرسم معالم تلك الـ "نا". اقترحت أن نغتنم الفرصة في المحنة ونعزّز من قدراتنا على قبول الآخر المختلف والتنزّه عن التخوين والتكفير، ونعيد ثقتنا بأنفسنا وممثلي أحزابنا وقياداتنا ومفكّرينا، صحافيّنا وكُلّنا كُلّنا.

فنَظَّرت كذلك بدوري عن ضرورة التكامل بين الأدوار وأهمية توسيع الشراكات الداخلية والخارجية. لم تسمح لي الثلاث دقائق ونداء المنظِمة الغاضب بضرورة إنهاء النقاش بإكمال التنظير. فأنهيته وسألت: ربّما قد انجرفت؟

رسالة من زوجتي تذكّرني بشراء الخبز قبل إغلاق المخبز، فأتوتر كما دائمًا وأخرج تاركًا التلخيص لمن تبقى من الحضور، وقد ساعدني الإفراغ الفجائي لبطارية هاتفي في الانشغال حول المعضلة الفلسفيّة القديمة والمتجددة؛ هل الوضع الاجتماعي للإنسان هو الذي يحدد وعيه، أم أن وعيه هو الذي يحدد وضعه الاجتماعي؟، وهذا عادة ما تفعله بي رَبْطَة الخبز؛ تعيدني إلى الفلسفة. الساعة الآن الخامسة عصرًا، وصلت إلى صومعتي كما أحب أن أطلق على غرفتي الصغيرة في بيتي، محملًا بالخيبة وبإحساس تأنيب الضمير لأن المخبز قد أغلق أبوابه.  

فانكفأت، وأضفت إلى الأسئلة أسئلةً. وكتبت ما كتبت.

وسيم حصري

محام وناشط سياسي وشبابي. طالب دراسات عليا في العلوم السياسية في جامعة حيفا. عمل في الماضي مستشار سياسيًا، وهو مختص بادارة مشاريع المرافعة والمناصرة في مؤسسات المجتمع الاهلي.

سامح عراقي
اولا يسعدني ما كتبه الرائع وسيم، هذا الوصف المممعن بالتفاصيل الدقيقه يدل على أن وسيم كما الآخرين كانوا في قمة الانجذاب لسيرورة المؤتمر ان الاسئلة التي يأتي المؤتمر لطرحها هي الاصح وقتا ومضمونا اشكرك وسيم على الرؤيه النقديه ، على اضافه اسئلة اساسيه أيضا كتعريف ال "نا ' في دورنا نحن نريد خوض غمار نقاش حقيقي كما يفعل وسيم في مقالته هذه .
الثلاثاء 3 كانون الأول 2024
عبد اللطيف حصري
عزيزي وسيم أسعدني وراقني ما كتبت راقني لأنك نكأت جراح أفكاري وأسعدني لأنك طرحت السؤال الجوهري مرتين الجوهر الأول والابتدائي عن الوعي الاجتماعي، وليس أبلغ من أنه جاء تحت ضغط إغلاق المخبز لنتبين أن الواقع الاجتماعي هو الأسبق وما الوعي الاجتماعي سوى انعكاس للواقع. والجوهر الجوهري الثاني الناتج من مؤتمر كنت سأنعته ب "ثرثرات فوق مآسينا" وأعني ما طرحته في مداخلتك عن حجم ال "نا" خاصتنا كمجتمع وكشعب صاحب أرض وقضية. بكل الاحوال ما دامت مركبات مجتمعنا السياسية عاجزة عن التصرف كقيادة لأقلية قومية تعاني أبشع صنوف القمع والاضطهاد، فإن ال "نا" خاصتنا ستبقى على هذا الشكل من التشظي والانقسام، وما لم تتجاوز هذه المؤتمرات مرحلة الثرثرة في موبقات الاحتلال، لن تقدم برنامجا لتصفية الاحتلال. مع خالص مودتي أبو وطن
الثلاثاء 3 كانون الأول 2024
ميسلون عبادي
ربما تكون هذه المره الاولى التي اقرأ بها مقال لا اريده ان ينتهي.. الم تستطع زوجتك الانتظار قليلا او حتى ان تذهب بنفسها لشراء الخبز .. لاحتفى معك بتلخيص ملهم يطرح عندي المزيد من الاسئلة؟ لانني اعرفك جيدا فقد سحرت بموضوعيتك في عكس صورة المؤتمر بوجهها الحقيقي واجزم اني حصلت على صورة خماسية الابعاد لم اكن لاحصل عليها لو كنت بالمؤتمر بنفسي ملاحظة لا بد منها.. لغتك بتطور رهيب ، جذابة وعاليه وبنفس الوقت قريبه جدا
الثلاثاء 3 كانون الأول 2024
رفيق بكري
مَشاهد وأسئلة حول مؤتمر "حرّية" الأول ما يعجبني ابا اللور في أسلوب كتباتك أنك تبحث من داخلك وتربط مشاعرك بعقلك وضميرك الواعي، تصوِّر المشهد وتحاول أن تروي الأرض البور بحسب عنوان المؤتمر، ثم تعود وتتحدّث مع ذاتك باحثا عن مخرج من ورطة ضياع وقت مكوثك هباءا من الكتابة على الرمال، خاصة وأن هدف المؤتمر زيادة الوعي حول سياسات الاحتلال وتعميق فهم تأثيرها،في ظل تردّي حالنا. المَشهد الأول: منصّة المُتابعة وصفك لهذا المشهد كان جريئا وإن كنت أفضل الموازاة بين المجهود الذي قامت وتقوم به المتابعة رغم حالة التعددية أو التقاطب في مكوناتها ومحاولة المُحاوِر إلقاء كامل المسؤولية على شخص محمد بركة، وأصبت في تركيزك على المثقفين فرسان منصات التواصل الاجتماعي والشاشات بأسلوبهم التنظيري، ينتقدون زيد ويشرعنون عمر بحسب العملة الخضراء في نهاية الشهر من خلف الشاشة. المشهد الثاني: منصة الأكاديميين في هذا المشهد تترك الباب مفتوحا للاجتهاد، وبرأيي يجب التركيز على الجدوى من عملية 7 اكتوبر، ولا يعنيني من ارتكبها، والطبيعي جدا ظهور "الترمبيستم" أن تجد مثلا من يهاجم حماس لكونه ينافس على بقاءه السياسي، أو مرتزقة مدفوعة الأجر وظيفتها زرع الشقاق بين أبناء الشعب الواحد، على هذا القائد محمد بركة كرر منذ سنوات مقولة "عار الانقسام". ابو اللور العزيز أبدعت في وصف المؤتمر وأبعاده، رغم أن أبحاثه كما وصفت تراوح مكانها قبل المؤتمر وخلاله، أما بعده فكل شيء مربوط بإمكانية الحصول على ربطة الخبز، حتى لو كان ذلك بتحطيم قفل المخبز. جميل جدا أسلوبك في الكتابة، واصل وأتحفنا دائما بمثل هذه الدرر
الأربعاء 4 كانون الأول 2024
رأيك يهمنا