الإِعلام في قَبضَة ترامب: هل يَنجَح في تَرويضه؟
في مَعركة الانتخابات الأخيرة، بدا الإعلام الأمريكي التقليديّ كَمَن يقرأ خريطة مَعكوسة، إذ أخفق بشكلٍ كبير في توقّع النتائج الحقيقيّة. توقّعت قنوات أمريكية مركزية تقاربًا كبيرًا بين المرشَّحَين وتقدمًّا متواضعًا أحيانًا للمرشحة الديمقراطية كاملا هاريس على نظيرها الجمهوري دونالد ترامب، بينما جاءت النتائج مخالفة تمامًا لهذه التوقعات، ما شكّل صدمة للجمهور، مما زاد من زعزعة الثقة بهذه المؤسسات الإعلامية. الفَرق الكبير بين التوقّعات والواقع جَعَل وسائل الإعلام هذه تبدو منفصلة عن نبض الشارع الأمريكي.
وفقًا لاستطلاع أجرته مؤسسة (Pew Research)، فإن 79% من الأمريكيين البالغين يقولون أن المؤسسات الإخبارية تميل إلى تفضيل جانب واحد عند تقديم الأخبار حول القضايا السياسية والاجتماعية، وهو ما دَفَع العديد من المتابِعين للجوء إلى منصّات الإعلام البَديل، التي باتت تقدّم سردًا أقرب إلى الواقع وأكثر تجاوبًا مع اهتمامات الجُمهور المتنوّعة. لم يكُن هذا الإخفاق مجرّد خطأ في التقدير، بل كشف عن أزمة أعمق تتعلّق بمدى قدرة الإعلام التقليدي على مواكبة التغيّرات في المزاج السياسي والاجتماعي للأمريكيين. وهناك من يقول إن الإعلام كان يحاول أن يحبط جملة ترامب الذي عاد مرارًا وتكرارًا وأكد على فوزه بالانتخابات مستندًا لاستطلاعات رأي أجرتها حملته الانتخابية.
أصبحَ الإعلام الأمريكي التقليدي أشبه بلوحة تُعرض فيها الألوان الزّاهية، بينما تترك الزوايا المظلمة خالية من أيّ إضاءة حقيقية تعكس قضايا الأقلّيات والتي لطالما شكّلت جزءًا كبيرًا من داعمي الحزب الديمقراطي. مشاهد الدّمار والدماء والشهداء في غزة أصبحت بمثابة صرخة مكتومة لم تصل إلى غرف الأخبار في الإعلام التقليدي الذي كان ينقل الرواية الإسرائيلية الرسميّة في كثيرٍ من الأحيان من دون أي تساؤلاتٍ عن مدى صحتها. كان ذلك كفيلًا بزيادة شعور الجاليات العربية والمسلمة في أمريكا وكأنهم على الهامش، فلم تكن تغطية اعتراضاتهم على سياسات "البيت الأبيض" تجاه الحرب تحظى بتغطية إعلامية، بل قوبلوا بالتجاهل في بعض الأحيان. كما تؤكد دراسةٌ أجرتها مؤسسة (CAIR)، فقد زاد تجاهل قضايا المسلمين من شُعورهم بالعزلة الإعلامية، في وقت بات فيه الجيل الجديد يطالب برؤية الحقائق دون "رتوش" سياسيّة.
ولأن الإعلام يلعب دورًا مهمًّا في الحملات الانتخابية، كان ترامب مثل لاعب شطرنج بارع، يحرّك قِطَعَه على رقعة الإعلام البديل بخِطط مدروسَة، بينما بدت هاريس وكأنها تلعبُ دور المتفرّج لا تتحرك بالاتجاه الصحيح. استغل ترامب منصّات البودكاست كأبواق ضخمة تضخّ شعبيّته، خاصة بين الشباب من جيل (Z) من اليافعين والشباب. على سبيل المثال، أجرى ترامب عشرات المقابلات في هذه البرامج ومن أبرزها مقابلته مع "جو" التي جذبت الانتباه وسَيطرت على السرديّة مدّةً ليست بقصيرة قبيل الانتخابات، وقد أظهر ترامب فيها مهارته في التحدّث بلغة البسطاء وبصورة مباشرة. أثارت المقابلة جدلًا كبيرًا بسبب تصريحاته عن الهجرة ووسائل الإعلام التقليديّة، وحققت ملايين المشاهدات على المنصّات المختلفة.
في المقابل، كانت كامالا هاريس تقّدم رسائلها في برامج تقليدية لا تناسب سرعة وتيرة التغيّرات الإعلامية، مثل ظهورها في برامج مثل (The View)، الذي ركّز بشكل كبير على مواضيع مثل حقوق الإجهاض دون التطرق إلى القضايا الاقتصادية والاجتماعية التي تؤرق الشارع الأمريكي أكثر من أي شيء آخر، الأمر الذي اعتبره كثيرون تهربًا من الواقع. انتشرت مقاطع تصريحات ترامب على "تيك توك" مثل النّار في الهَشيم، بينما ظلّت مقابلات هاريس أقرب إلى همسات لا يسمعها أحد في صخب الحَملَة.
تغييرات ترامب المثيرة للجدل
لطالما كانت علاقة ترامب بالإعلام التقليديّ والصحافيين مختلِفة، غير لَطيفة في أحسن الأحوال وعدائيّة في أسوأها. ففي ولايته الأولى كان يهاجم الصحافيّين الذين لا يتّفق معهم علنًا كحادثة إسكاته مراسلَ (CNN) في أواخر ألفين وعِشرين. ومَع عودته إلى "البيت الأبيض" يدور الحَديث عن تغييرات جذريّة ينوي ترامب فَرضها في ما يتعلّق بالإحاطات الصحافية بـ "البيت الأبيض"، ما يُثير قلَقًا بين الصحافيين. فقد ألمَحَت إدارة ترامب إلى نوايا بإعادة ترتيب مقاعد غرفة الإِحاطة الصحافيّة، وهو ما قد يقود إلى تهميش وسائل الإعلام التقليدية لصالح الصحافيين المستقلّين ومقدمي البودكاست المناصرين لترامب على وجه الخصوص. يقول أحد المحللين في (The Hill): "إذا نجح ترامب في استقطاب الصحافيين البديلين وتهميش الإعلام التّقليدي، فسنشهد تحولًا كبيرًا في طريقة نقل المعلومات". ومع ذلك، يرى البعض أن هذه الخطوة قد تقوّض مصداقيّة الإحاطات وتُحوّلها إلى ساحة حزبية، حيث علّق صحافي مخضرم قائلاً: "إذا كانوا يعتقدون أن تغيير ترتيب المقاعد سيوقف التغطيات النقديّة، فهم مخطئون هذا سيؤدي إلى تدقيق أكثر حدّة وإعلام أكثر انتقادًا".
في النهاية، يبدو أن المَشهد الإعلامي الأمريكي يتّجه نحو تغييرات عميقة. لكن السؤال الذي يظلّ عالقًا: هل ستتمكّن الإدارة القادمة من استعادة ثقة الصحافيين والجُمهور؟ أم أن التّجاهل المستمرّ لأسئلة الصحافيين سيؤدي إلى تضخّم الهوة بين الإعلام والسياسة؟