هل هجرة العلماء العرب نعمة أم نقمة؟
إن الإجابة على هذا السؤال تحتمل عدَّة أوجه وترتبط ارتباطًا وثيقًا بالفترة الزمنيّة التي نتحدث عنها. شخصيًّا، أستطيع أن أقول إنني أنتمي الى الرعيل الأوّل من خريجي الدراسات العليا الذين تخرجوا في سنوات الثمانينيات من القرن الماضي. المؤسسة الإسرائيلية لم يكن لديها استعدادٌ لفتح أبوابها أمام هؤلاء. عدد قليل فقط استطاع الولوج داخل بعض المؤسسات الأكاديميّة، وخاصة خرّيجو علوم الاجتماع والآداب. أمّا خرّيجو المواضيع العلمية فإن عددًا لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة وجد نفسه في داخل مؤسّسة بحثيّة. ولكن القسم الأكبر وجد نفسه داخل المؤسسات الأكاديميّة الفلسطينيّة كجامعة بيرزيت والنجاح ولاحقًا جامعة القدس العربيّة. وبما أن هذه الجامعات ترتكز على التدريس ولم تكن للأبحاث العلميّة أولوية، وخاصة في حقل العلوم، ارتأى عدد كبير منّا التفتيش عن إمكانياتٍ بحثيّة في الخارج. هل كان ذلك هجرة أدمغة؟ بالمعنى المجرّد يمكن القول إنها كذلك، ولكن بانعدام فرص التقدم العلمي القسري (التفرقة العنصريّة في المؤسسة الإسرائيلية) والبنيوي (أولويات المؤسسات الفلسطينية). كان لا بد من الهجرة. لا أدري إن كان بالإمكان القول إن هذه الهجرة قد أصابت مجتمعنا الفلسطيني في الداخل بضرر، لكنني شبهُ متأكّدٍ مِنْ أن وجودَنا ونجاحاتنا في الخارج كانت محفّزًا لهجرة الأجيالٍ القادمة إلى العالم الكبير الواسع حيث فرص التقدّم والتميّز موجودة.
من ناحية أخرى، على مستوى الفرد والمجموع، كانت هناك قيمة مضافة مهمة وهي التحرر من قشرة السيلوفان الإسرائيلي، وأصبحنا نمارس هويتنا الفلسطينيّة بكلّ أبعادها وبكلّ حرّيَّة، وأصبح عطاؤنا وإنجازنا فلسطينيَّ الهوية ... أمّا زملاؤنا الذين أتيحت لهم الفرصة للانخراط في العمل داخل المؤسسة الإسرائيليَّة والذين تميّزوا بتفوّقهم ونجاحاتهم، فإن إنجازاتهم الأكاديميَّة، والذنب ليس ذنبهم طبعًا، اعتبُرت وأحصِيَتْ على أنها إنجازات المؤسَّسة الإسرائيلية. ليس هذا فقط وإنما استغلَّ انخراط هؤلاء الزملاء كورقة تين لتغطية العنصرية المُمَأسَسَةِ والمتأصّلةِ في كينونة الدّولة الإسرائيلية. وهي الضريبة التي ندفعها بغير طيب خاطر.
إذا قفزنا زمنيًّا إلى الفترة الحاليَّة، نلاحظ أن الصورة قد اختلفت على جميع الأصعدة. إن الاعداد المباركة من حاملي الشهادات العليا وصاحبي التخصصات المختلفة قد فاقت كلَّ التوقعات. إنها ثورة مباركة حصلت في أقل من عقدين ... لم يعد الطبيب عامًّا وإنما تخصصيًّا على المستوى العالمي وقلَّ أنْ نجد طبيبًا عربيًا لم يزاول البحث والتخصّص في أرقى الجامعات العالميّة. وليس صدفَة أو صدَقَة أن نراهم وقد تبوَّأُوا المراكز العليا إداريًا وطبّيًّا في المؤسّسات الصحيّة المحليّة. كذلك عدد الباحثين في المؤسّسات الأكاديميَّة الاسرائيليَّة قد تزايد كثيرًا. وما يثير الغبطة والسرور في نفوسنا جميعًا أنَّ هؤلاء الزملاء يتصدَّرون قوائم التميُّز محليًّا وعالميًّا.
من الطبيعي أن نفرح ونعتزَّ ونفخرَ بكلِّ هؤلاء وإنجازاتهم العلميَّة، وخاصَّة نحن الجيل الذي اجترح النجاح برغم كل الصعوبات والعقبات. وقد تكون تجربتنا قد ساهمت بما نراه اليوم من النهضةِ العلميَّة العربيَّة في الداخل الفلسطيني. ولكن، مع كل الفخر والاعتزاز بهذه القدرات الفلسطينية، إلّا أنَّ هذا السرور والغبطة يأتيان مع غصة وشجن، وذلك لشحِّ المردود المجتمعيِّ لهذا الإنجاز الكبير.
من واكب الزيادة المطَّردة بإعداد طلبة الجامعات في الثمانينيَّات والتسعينيَّات يلاحظ أنَّ اتساع شريحة الطلبة والعمل الطلابي في الجامعات كانت مقترنة بوعي هوّياتي عميق جدًّا وانغماس في الهم الفلسطيني محليًا ووطنيًا، والتي أعطت أكلها محليًّا وقطريًّا بخلق حركة وطنيَّة فاعلة على الساحة الفلسطينيَّة لعقود. لذلك يحقُّ للمراقب أن يطرح السؤال الأهمَّ وهو: هل هذه النخب الأكاديميَّة، بأعدادها العظيمة، مطلعة بدورها الوطني ومنخرطة بهموم أهلها ومجتمعها؟ هل هذه الإنجازات الأكاديميَّة فرديَّة أم لها مردودٌ مجتمعي عام؟
في رأيي المتواضع وللأسف أنَّ هذا الكمَّ من الأكاديميّين والباحثين، وبشتى المجالات، لم ينجح بصورة مقبولة في أن يكون رافعة مجتمعيَّة وركيزةَ نهضةٍ وطنيّةٍ وفاعلًا أساسيًّا بترسيخ الهويَّة الوطنيَّة. لا أحسد هؤلاء الأخوة الأعزّاء كونهم جزءًا من المؤسَّسة الإسرائيليَّة وكَوْنَ إنتاجهم يندرج في نفس الخانة أي الاسرائيلية. يعني ذلك أن أي مقال أو كتاب أو اختراع علميٍّ يندرج تحت الصفة الإسرائيليَّة. هذا التناقض يحتاج إلى جهد ليس ببسيط من هؤلاء، وهذا يضع عبئًا ثقيلًا على كاهل الفرد، ولذلك يصبح حسم الهويَّة والتعامل بحذر سيِّدَ الموقف. ويحضرني هنا ما رواه العزيز الباحث الكبير حسام حايك عن تجربته في الحرم الجامعي حيث الاحترام والتقدير داخل العمارة والمختبر بينما العنصرية تأخذ مجراها في اللحظة التي يخرج من باب بنايته، أو صفاقة وعنصرية شرطة المطار معه وهو مسافر في مَهَمَّةٍ شبه رسميَّة، ولم تشفع لحسام صورته المعلقة كأحد المؤثرين البارعين في الدولة. هذا الوضع له تأثيره ويتطلّبُ جهدًا ليس ببسيط ليحسمَ المرءُ هويَّته وتوازناته والسَّير بين نقاط المطر. وضعٌ لا نحسَدُ عليه ونعتز بكل أولئك الزملاء الذين حسموا أمور هويَّتهم وأصرّوا على عروبتهم وفلسطينيَّتهم، ونتمنى على الآخرين الذين يجلسون على السياج أن ينزلوا عنه. أمّا القلة القليلة التي قفزتْ للناحية الأخرى وتماهت واستقرَّت تحت عباءة زرقاء وبيضاء ورضيت أن تعيش في الظل، نتمنى لهم أن يعودوا إلى حضن هويَّتهم الأصيلة بأسرع ما يمكن.
قبل عدّة أسابيع طالعتنا بعض وسائل الإعلام بنبأ تخرّج العشرات من حملة الدكتوراه العرب هذه السنة. وطبعًا كلنا فخر واعتزاز بهذه القدرات الرائعة والتي نتمنّى لها النجاح والتميّز محليًّا وعالميًّا. إن هذا الازدياد المبارك يطرح قضيَّة الهويَّة بصورة أشدَّ ضراوة وإلحاح... كيف يمكن أن يكون مركز الثّقل في المكان الصّحيح؟ وألّا نشطَّ بعيدًا في امتناننا لإسرائيليَّتنا وننسى نكبةَ وهمومَ ومآسي شعبنا.. في ظل غياب أو ضعف حركة وطنيّة واعية وفاعلة وانتشار الفكر العملياتي واليومي وتهميش الجمعي والوطني، فإن مؤشر القلق عندي، على مركزيَّة الهويَّة الفلسطينيَّة لدى هذه الشريحة المهمَّة والواعدة، قد انتقل من الأخضر الفاتح إلى الأصفر، أملاً ألا نصل إلى اللَّون الأحمر.
نهايةً إلى السؤال حول هجرة الأدمغة إلى الخارج، وهل هي نعمة أم نقمة؟ يمكن القول إن هذه النهضة الأكاديمية هي نعمة لم نصلها بعفوية، وإنما بنضال وجهد وآلام ودموع، ولذلك نحبُّها ونعتز بها. ولكنَ هذه القدرات يجب أن تنمو وأن تكبر وأن تنتشر وتفيد البشريَّة جميعها. باعتقادي أن نكبل أيدي علمائنا وأن نحرمهم من التميُّز والعطاء الإنساني فيه نوع من الأنانية. الغربة لم تعد غربة كما كانت سابقًا، والتواجد في بلاد الانتشار ليس جديدًا على النفس الفلسطينيَّة في الخارج. أجزمُ أن إنجازات هؤلاء ستكون لها متعة خاصّة لأنها ستكون فلسطينيَّة بحتة، وهذه هي تجربة العشرات من الأصدقاء والزملاء الآتين من الداخل الفلسطيني في بلاد الشتات. إن متعة أن تكون منسجمًا مع نفسك وهويَّتك يمكن أن تقلل من وحشة الغربة برغم البعد عن الوطن. إن تواجدنا في الجامعات والمؤسّسات البحثيّة العالميّة كفلسطينيّين وبدون تأتأة لهو عامل أساسي لرفد الحق الفلسطيني والغبن الذي حلَّ بنا. ليس غريبًا في هذه الأيّام أن في الكثير من المؤسسات الأكاديمية الرئيسية هناك علمًا واحدًا يلتفُّ به الخريجون هو علم فلسطين وشعار "تحيا فلسطين" يتردد في احتفالات التخرّج في أرقى الجامعات العالميّة. أمّا أولئك الذين ينخرطون في المؤسسات المحلية فكلنا أمل أن يجدوا المساحة الملائمة لهويَّتهم في جميع نواحي حياتهم العلميّة والمهنيَّة. ثقتي كبيرة بأن الأغلبيَّة الساحقة ستجد طريقها محليًّا وعالميًّا وأنّها ستحمل قضيَّتها وهموم شعبها أينما حلَّت. إن النقمة العظمى هي فقدان الهويَّة والبوصلة وعندها لن يعوِّض عنها النجاح والتميُّز وقد علَّمتنا تجربتنا في الداخل الفلسطيني أنَّ من فقد هويتَهُ فقد نفسه... لكم أعزّائي علماء المستقبل نقول السماءُ هي الحدود فلا تقنعوا بما دون النجوم.
د. علي فطوم
باحث في علوم المناعة والتطعيمات واستاذ مشارك (زائر)، جامعة ميشيغان - آن آربر