"قررنا نطلع بريت البلاد"

كتابة هذه المقالة اعتمدت مضمونا على مقابلات قصيرة حول تجارب شباب وشابات أقاموا أو يقيمون خارج البلاد. المواد المطروحة هنا تلخّص وتدمج الأسباب المختلفة التي ذكرت، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الكاتبة أو تجربتها، أو شموليّة الأسباب عامة.

نحن في عصر باتَ فيهِ السَّكنُ خارج البلاد متاحًا، مسهَّلا وسائدًا أكثر. 5% من مغادري البلاد لعام 2020، مِمَّن سكنوا خارجَها مدَّةَ سنة أو أكثر، هم منَ العرب، ويشكّلون ضعف تعداد العائدين في ذات العام بعد قضاء سنة أو أكثر في الخارج، حسب ما صدر عن دائرة الإحصاء المركزيّة. 

بعضكم يعتبر هذه الأرقام هجرةَ أدمغة وآخرون يرونها هروبا. البعض يحملُ حسرة على بُعدنا والبعض الآخر يحمل حسرة فوات قطاره.

الغربة ليست سهلة، ولا هي حياة ورديّة معسولة وملاعق من ذهب. هي منفذٌ، فرصة وفسحةُ أمل، اخترناها لنا سبيلاً، مؤقتا أو طويل الأمد. “قررنا نطلع بريت البلاد"، اختلفت دوافعُنا، أمّا القرار فواحد.  

أسرد لكم هنا الدوافع، لا لِهَدَفِ الإقناع أو التبرير، بل لهدف المشاركة.

اطلبوا العلم ولو في الصّين 

مغادرة البلاد غالبًا ما بدأت طلبا للعلم، معظمها في الدول الأوروبيَّة والولايات المتحدّة الأمريكيَّة، الصين هنا مجازيَّة على الأرجح، ولكنها إمكانيَّة للبعض أيضا. 

'تعلّم ما تحب' ليس دائما ممكنًا نظرا لمنظومة مؤسسة التعليم في البلاد وشروطها، فيلجأ البعض للسفر لتحقيق المراد. طلّاب الألقاب المتقدّمة يختارون جامعاتٍ خارج البلاد للانتساب لبرامج تعليميَّة مميَّزة غير متوفرة في البلاد، أو لاكتساب خبرات في مختبرات ذات شهرة عالميّة، امتياز بحثي وريادة في أبحاث السّاعة.

بينما يتطلب من خرّيجي لقب الدكتوراة، المعنيين بالانتساب للمؤسسات الأكاديميَّة لمنصب بحثي أو بروفيسور، تجربة ما بعد الدكتوراة 'بوست دوك' في جامعات خارج البلاد للتخصّص والتطوّر في مجالات حديثة. 

فرصٌ أكبر وأبوابٌ أوسع

السفر لخارج البلاد يفتح أبوابًا لفرص عمل مثيرة ومتقدمة وغير اعتياديَّة، وذلك لسعةِ أسواق العمل وتنوعها والانفتاح على التعدديَّة والخلفيات مختلفة من لون وعقيدة وقوميَّة وجندريَّة وقدرات. المعوّقات المُختلقة كتلك التي نواجهها في البلاد قليلة جدًّا أو شبه معدومة هناك.  أمّا في البلاد فإنَّ فرص العمل للمواطن العربي قليلة جدًّا وخصوصًا بما يتعلق بمناصب مرموقة ووظائف متقدمة تقنيًّا، أو حسّاسة من حيث أهميّتها وسريتها. والصناعات الكُبرى في البلاد، معظمها حكوميّ أو تابع لمنظمة الجيش ولا مكان للعربيّ هناك، حتى لو تجرَّد من هويَّته القوميَّة و"مسَحَ الجوخ" ليلَ نهار. 

 للشركات الناشئة والصغيرة في خارج البلاد فرص أكبر وأوفر، وذلك لتعدّد الدفيئات، مصادر التمويل، العلاقات العامة الواسعة بالمؤسسات المحليَّة والعالميَّة، الأكاديميَّة والصناعيَّة، بالإضافة لشبكة كبيرة من الزبائن والمستخدمين. هذه النقطة قد تكون محور جدل خاصَّة وأن البلاد ملقّبَة عالميًّا بــ 'دولة الشركات الناشئة'، الإمكانيات المتاحة فيها، من موارد وبرامج داعمة، كثيرة جدا.

على صعيد آخر، فإنّ بعضَ الدُّول، خاصّة الأوروبيَّة، تتيحُ إمكانيَّة الموازنة والموافقة ما بين المهنة والحياة، بالإضافة إلى شروط مريحة، فالإجازات بوفرة، والمرتبات جيّدة، معها نكتشف معنى الحياة الحقيقيّ من جديد. 

أضف إلى ذلك الفرص الذهبيَّة لتعلم مهارات حديثة لغويّة وحضاريّة. السَّكن خارج البلاد يمنح بشكل تلقائي وقتًا كافيًا لتطوير الذات ومزاولة مواهب متعددة. 

شغفُ التعرّف على حضارات جديدة وتحدّيات خارجة عن منطقة الرّاحة

للبعض بدأت تجربة السفر لهدف المتعة والاستكشاف، حلم منذ الصغر، خطة آخر العشرينيات أو بالصدفة.

السفر لمكان ليس لك فيه أيُّ شيء يمنحك شعورًا بالاستقلال العام والملكيَّة النفسيَّة، فهو كالصفحة البيضاء المسطّرة، تكتب عليها ما شئت عبرَ وبينَ السطور، ترسم بقلم فضول التجربة وتلوّن بنكهات الحضارات العالميَّة المختلفة التي تنكشف عليها. هي فرصة ومسؤوليَّة، تندمج خلالها بمجتمعاتٍ عدَّة لتتعرف عليها وتعرّفها بمجد أصلك وفصلك. 

مغامرة شيّقة هي التجربة - شهور السَّكن الأولى في الخارج - تجد نفسك تبحث عن السمَّاق والزعتر والحمّص؛ زاويتك الآمنة، حتى تسيطر على المكان الجديد. 

تكتشف متعة الحريَّة الجغرافيَّة، حريَّة التنقل بلا حدود، بطبيعة خلّابة، قرى ريفيَّة وجمال كالذي نعرفه من لوحات أحجيَّة الصور المقطعة (puzzle). 

الترف والثقافة، عوالم جديدة تتكشَّفُ لنا، ونفهم أكثر تاريخ الشعوب وتطوَّر حياتهم عبر الزمن، ذكاءَهم وضعفَهم، أنظمتهم وطُرُقَ تفكيرهم، قوانينَهم وعاداتِهم وتقاليدَهم.

نجد خارج البلاد ثقافاتٍ تحترم التعدديَّة وتتقبلها في حرم بيتها، وذلك ينعكس من خلال تعدّد اللغات في الشوارع والأحياء. اعتناق الديانات المختلفة أو عدمه والتعريفات الذاتيَّة الحرّة. وبالطبع، لا ننسى تنوع الطعام والكوليناريا الموجودة في الغربة؛ من الياباني والصيني والفيتنامي والهندي والباكستاني والعراقي والإيراني إلى اللبناني والسوري والفلسطيني والتركي، والبلقاني واليوناني والطلياني والألماني والمغربي والإسباني والفرنسي والمكسيكي وما إلى ذلك من أطعمة وخلطات شهيَّة، تأخذك إلى رحلة حول العالم.

ههنا في الغربة، يتحقق أيضا الحلم العربي، كأن الحواجز تلاشت وسنحت الفرصة للفلسطيني أن يمارس عروبته بامتياز ويشكل شبكة معارف عربيَّة لم تحققها اجتماعات الأمم العربيَّة.

هدوءٌ وأمن وأمان

أكثر الأسباب ذكرًا! هي زقزقة العصافير متناقلة السكون بين أروقة المدينة.  تحمل الأمن والأمان، رغم تعدد الجنسيات والمعتقدات. لا نشعر بالكراهيَّة لو كانت موجودة. تحيطنا الطمأنينة، وسلامة المعيشة، فكلٌّ مشغول في شأنِهِ وحيزّه، قلَّما يتبادل الناس الغيرة والحقد وقلَّما يتشاجرون. 

هنا، السباق مع الزمن أكثر اتّزانًا وأكثر بُطءً. يمنح الشعور بالرخاء والرّاحة وهدوء البال. هنا تدفُّق محدود للأخبار المحليَّة، فلا نتداول الأحداث البشعة من كل حدب وصوب، لأننا نحتاج، نحن البشر، أخبارا مفرحة أو حتى فراغًا من الأخبار لسكينة النفس.

هنا أفقٌ نرسم عبره المستقبل، بالرغم من بعض العيوب، لا نهاب ما يخبئه الغد لأبنائنا كما نهابه في البلاد مع تصاعد العنف والجريمة والعنصريَّة المتجهة نحو الهاوية. سئمنا قراءة الأخبار عن البلاد، فكيف يحتمل العيش فيها؟ طوباكم. 

الغربة ليست مكانًا ورديًّا، لكنَّ بلادنا أصبحت حلبةً قتاليَّةً كبيرة. لا مكان لشمّ الياسمين، فأثر الفراشة هجر. 

فيي الغربة، للمرأة مكانة تحفظ حقوقَها. لن أخدعكم، فهنا التمييز الجندري موجود، والسلطة الذكوريَّة البيضاء واقعٌ، ولكن هناك مساحةً للمرأة، تحترم وجودها وحريّتها، فالمقارنة نسبيَّة. والعيش بكرامة للمرأة هنا أكثر ضمانًا وأمانًا. وهناك أيضا مساحة للوالديَّة، فللأب حق بفرصة ولادة لقضاء الوقت مع عائلته! 

في الغربة نتعلم معنى بناء المجتمع والحفاظ عليه بقوانينه وسلوكياته، شوارعه وحدائقه وأماكنه العامة. نكتشف عيوبنا وعيوب مجتمعنا التي تغيب عنا في البلاد، وهذا لا يعود فقط للعادات والتقاليد، بل للبنية التحتيَّة والخدمات الحكوميَّة. هنا ننعم بحياة اقتصاديَّة وصحيَّة كافية، وذلك يتضح بأبسط الأمور مثل ما تقدمه البلديات من بيئة منظمة نظيفة وجميلة مقابل مردود الضرائب. أضف إلى نعمة حريَّة التنقل والسفر كما هي بين الولايات الأمريكيَّة أو دول الإتحاد الأوروبيَّة، فلا نوقَّفُ على يد جندي احتفل البارحةَ بعيد ميلاده التاسع عشر، ليسألنا عن هويتنا، يتفقدنا لساعات، يحقّق معنا ويعرّينا بأسئلته الوقحة.

غريب في بلادي أم غريب في بلاد الغرب؟ 

سياسة وعنصريَّة: من السيِّئِ إلى الأسوأِ

بلادنا متجهة من السيّئ الى الأسوأ نحو الفلسطينيين. العنصريَّة في أسوأ أشكالها، تفتّتُ أيامنا، تعلّبنا (تصنّفنا) وتقرّر مصيرنا، تمحو ما تريد منه وتسيّرنا على حبل رفيع أوهَنَه الزمنُ. 

العنصريَّة تكمن في كل مكان وفرصة. فهناك من غادر البلاد رافضًا أن يكون جزءًا من مؤسّساتها الأكاديميَّة والصناعيَّة التي تشترط القبول إلى حرمها بتبييض وجه السّياسة الإسرائيليَّة، والمساهمة في نشر الدعاية حول التعدديَّة ودمج العرب ومنحهم الفرص المتساوية. هي ذاتها المؤسّسة التي ترى العربيَّ مواطنًا من درجة متدنّية ومنها لا تحسبه إنسانًا.  

الاندماج في المجتمع اليهودي أسهلُ لبعضهِم من الآخرين، كذلك هو العمل مع زملاء يهود، والتأقلم مع مدراء، ووضع الثقة بهم والنظر إليهم كنماذج عليا ومرشدين. يختلطُ على البعض مفهوم القوميَّة، وتتعارك الذات مع ذاتها ومع كلّ ما ومَن حولها، في العمل مع المحتل وما هو منطقي وحق وما خرج عنهما.  

سبب آخر للفرار هو حماية الجيل الجديد، من التربية على أسس العنصريَّة والتمييز والتذوق من بشاعتها.  

مجتمعنا: علاقة عشق وكره

سياسة فرّق تسد ترفرف بنجاحها، حاصدة مئات الأرواح من شعب بات يقاتل ذاته. بلطجيَّة وعصابات وأشكال لا تشبهنا. يعارك الناس بعضهم، كأنهم في قِدْرٍ مضغوط. فترى المواطنَ في بلده يبحثُ عن بقعة أمان يلجأُ إليها من رصاصة طائشة أو سائق متهوّر أو دمٍ يغلي. أمّا عن المرأة، فحدّث ولا حرج. لنخجل! بئس مصير مجتمعنا الذي أصبح أيقونة للعنف وعنوانًا له. ومهما كان المجتمع مفعولًا به، فهو الفاعل في النهاية. كفى.

البعض منا ترك البلاد لعدم شعوره بالانتماء، مفتقرًا إلى لغةٍ مشتركةٍ مع مجتمعٍ بعُدَ عن أصوله ونسي قيَمَه؛ "وَصِيَّتِي أَنْ تُحِبُّوا بَعْضُكُمْ بَعْضًا كَمَا أَحْبَبْتُكُمْ", "وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ"، "لاَ تَقْتُلْ، ولاَ تَسْرِقْ، ولا اَ تَشْهَدْ عَلَى قَرِيبِكَ شَهَادَةَ زُورٍ"، "وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى" وقيَمًا أخرى سماوية، أدبيّة أو إنسانيَّة.  مجتمع نسي الكتبَ وركَّز على ملكيَّته النرجسيَّة للدّين، ومازال تطرُّفُه هذا يُسيّر حياته. 

مجتمع يتدخَّل بشؤون لا تُعنيه ويطبّق عادات أكل الدهرُ عليها وشرب، ما زال يرى العيبَ في الفنّ والثقافة بدلا من تنميتها واحترام الإبداع والحريَّة في التَّعبير. مجتمع ترك التغيير يتعثَّرُ في مكانه، أهمَله، فولّى عنهُ الأملُ ومضى وحيدا حزينًا. مجتمع لا يحترم الاختلاف، ولا يتركُه وشأنه. مجتمع بعيد كلَّ البعد عن إنصاف المرأة والإقرار بحقوقها واحتياجاتها وشغفها. 

نكره كلّ هذا لمجتمعنا!

لكننا أيضا نعشق ونشتاق!

نشتاق للأهل، فهُم أصعبُ ما واجَهْنا في قرار السفر والاستقرار في الخارج. نحنُّ لأصدقاءِ الطفولة والجامعة وزملاء العمل، وحانات البلد وحوانيتها. نشتاق لرائحة المناقيش والقهوة، للأزقة وأصوات الكنائس والمآذن. نشتاق للبحر وأمواجه، للصحراء والجبال والسهول، لعكا وحيفا ويافا، ومدن وقرى طفولتنا.

نعشق الحراك فيكم، أنتم المتمسكين بلهفة التغيير. نفرح لكل نجاح في السينما الفلسطينيَّة والمسرح، للرقص المعاصر والتعليم البديل والمبادرات التقنيَّة والبرامج المجتمعيَّة والعلميَّة وإحياء أسواقنا والتصدي لشبح العنف، ومحاولة موازنة أرجوحة الهاوية وحماية الأمل. نشتاق إليكم، نشدُّ على أياديكم ونتحدث عنكم هنا بعدّة لغات.

وقلَّما نشتاق للنقاشات الصاخبة والأصوات العالية ومقاطعة الآخرين، لأننا اعتدنا على الهدوء، ولكنَّنا مازلنا نبتسم لذلك ونشتاق. لا نشتاق للأعراس الكبيرة والتبذير على الشكليّات، ولكننا نشتاق للجمعات فيها والرقص على رنين العود في أواخر اللّيل. لا نشتاق لضجيج الشوارع وأزمات السّير، لكننا نشتاق لبساطة الناس ومساعدتهم بعضهم لبعض حين يغفل عنهم شبح العنف والتوتر. 

لربما لنا في الخارج وطن "خطة ب"، لكنها ليست سحريَّة

فرصة التواجد خارج البلاد لفترة طويلة قد تمنحنا الجنسيَّة الإضافيَّة، بها نحظى بخطّة بديلة إن ضاق علينا السكن في البلاد. لنا ولعائلتنا مكان آخر وفرصة عيش كريمة.

هذه الفرصة لا تأتي بالسهل، والعيش خارج البلاد له تعقيداته وصعوباته: الاعتياد على عادات وقوانين جديدة، تعلّم المؤسسة واللغة والشعب، بناء علاقات وشبكة أصدقاء. كثيرًا ما يراودنا الشعور بأننا لا نزالُ زائرين نحاول فهم سيرورة الأمور. بيروقراطيَّة تتطلب مثابرة وملاحقة دون مساعدة من الأهل أو من صديقهم الخبير. 

البُعد عن الأهل والأصدقاء ليس سهلاً، خاصة في مناسبات الفرح والترح.

البحث عن العمل، خاصة إن كان الانتقال لهدف مهني أو تعليمي لأحد الزوجين، إذ يضطر أحدهما في بعض الحالات إلى تغيير مساق التخصص، أو الالتحاق ببرامج قبول وامتحانات للعمل بذات المجال، وقد يأخذ هذا وقتا ومجهودا، وتحدّيات. الحياة هنا ليست معسولة ولا تُقدّمُ لكَ بملعقةٍ من ذهب. 

وإن تساءلتم هل سنعود… فهذا سؤال المليون. ولِكُلٍّ منّا حساباتُه وظروفه، فلا وُعود ولا قرارات. 

اعذروني، سأترككم بلا إجابة.

د. حنان خميس

مهندسة مختصة في مجال الهندسة الطبية، مديرة منتج في شركة Siemens Healthineers  الألمانية، ومؤسسة شريكة لجمعية نساء عربيات في مجالي العلوم والهندسة AWSc.

Hazar Kanazi
وصف دقيق وتصوير رائع لوضعنا في هذه الايام. اتمنى لك التوفيق والنجاح
الأحد 9 تموز 2023
رأيك يهمنا