حكايةٌ لا تَنْتَهي
مقدمة
اسمي فِراس الرملاوي، أو كما ينادونني، "أبو النور". لاجئٌ في قطاع غزة منذ عام 1948، ونازحٌ في جنوب القطاع منذ عام 2023. لن أكتبَ لكم اليوم شيئًا مميزًا، لكنني سآخذكم مَعي على مَرْكب الحكاية التي بدأَت، ولا أعتقد أنها سَتنتهي.
في بداية الحرب!
"تقول لي ابنتي: "بابا.. لَمّا ننام لازم نِلبَس أحلى لِبِس ونْرُش عُطر، عشان لما نموت نكون نظيفين"... ماذا أَقول لها!؟
في قلب الصراع، أُسرتي وأنا نَحْمل بأناملنا أملًا صغيرًا بالغد الأفضل، في انتظار الأيام التي قد تُعيد إعمار ما دمّرته الحرب.... هل تعرّفتم على أَمَل؟
حَدَثَ في مُنتَصَف الحَرب
في مُنتصف الحَرب، كتبتُ منشورًا أردتُه بمثابةِ ردّ قانوني على جيش الاحتلال، وطَلَبِه إخلاء شمال غزّة إلى جنوبها، فيما لا يُتيح هذا الجيش إخلاءً آمِنًا. كتبتُ: حيث سَمِعنا أنّكم أَرسلتُم رسائل إخلاء للسكان مِن مدينة غزّة متوجّهين إلى جنوب وادي غزة. أُحيطكم علمًا بأنني أنا وأهلي وعائلتي وكلّ مَن هو متواجد في غزة وشمالها لا نستطيع النزوح إلى جنوب الوادي للأسباب التالية:
· حيث أنّكم منعتم دخول الوقود إلى قطاع غزة فلا توجد أيّ وسيلة مواصلات نستطيع التنقّل بها والانتقال إلى مَكان آمن.
· كما أنّكم قُمتم بقَطع وسائل الاتصال بين الناس مِن الاتصالات والانترنت، وبالتالي هناك مجموعة كبيرة مِن المدنيّين لم تَستلم هذا البلاغ.
· حيث أنّكم قُمتم بقَطع الطريق الساحلي وصلاح الدين، واستهدافكم مدنيينَ قاموا بالمغادرة فهذا أدّى إلى ترويع أطفالنا وعائلاتنا مِن المخاطرة بالمرور مِن تلك الممرات.
· حيث أنّكم تقصفون على نحو مستمر في المناطق الجنوبية وتستهدفون المدنيين، وهذا دليل على عدم توفّر أماكن آمنة فيها، وبالتالي لا نستطيع اتخاذ قرار المغادرة.
وعليه، وبسبب ما سبق، فإننا لا نستطيع القيام بهذا الإجراء، ويُعتبر هذا المنشور ردًّا قانونيًا عليكم، ونُحمّلكم كافة المسؤولية القانونية والأخلاقية في حال تعرّضنا لأيّ شيء يؤدي إلى خسارة الأرواح والأملاك، وهذا رَدّ رسمي لَكُم في الموقع الاجتماعي "فيسبوك". لا بُدّ أنّني كنتُ في حالة هذيان عندما كتَبت تلك الرسالة... أو لَعلّها موجّهة لكل إنسانٍ لديه القليل مِن الإنسانية ليَشعُر بحالنا!
في طَريق التيه والضَياع والحُزن والخَوف
- على ضفاف الحُزن والخوف، كنت أسيرُ في طريق مليء بالتحدّيات. مع كلّ خطوة خَطَوتها، كانت الراية البيضاء ترتفع رمزًا للسلام بين جدران الدمار والألم. وسط الدبّابات والجثث، كُنت أُبحر في بَحر مِن اليأس، وكل خطوة تشكّل جزءًا مِن قصة البحث عن الأمان.
- رغم الدموع التي رافقت خطواتنا، وَصَلنا إلى مدينة رفح كميناء آمن مِن رياح الحرب. في روضة الأطفال، وَجَدنا لحظات هدوء في غُرف صَفّية ضيّقة. وسط الأسى، تساءلتُ في صمت: "هل سنعيش نكبة جديدة؟".
- لقد عَرفت الآن معنى اللجوء. عندما كانت جَدّتي تروي قصّة هجرتها مِن قريتها المدمرة في أراضي 48، كنت اعتبرها مِن الأساطير، لكنّي تأكّدت اليوم مما تعنيه كلمة نزوح:
o النزوح هو أن تَفقد جزءًا كبيرًا من حياتك وتاريخك لأجل أن تُنقذ روحك مِن الموت.
o النزوح أن ترى الموت أمامك ولا تبكي لأنّك مشغول بالبحث عن الأمان.
o النزوح هو أن تنام في أيّ مكان تحتَ أيّ سقف، فقط تَحتمي مِن الحرب أو أجواء الطبيعة.
o النزوح أن تبدأ الصراع في البحث عن الطعام والماء والدفء.
o النزوح أن تَفقِد جزءًا مِن كرامتك وأنت تُسجّل لاستلام معونات المتبرّعين.
o النزوح هو أن تشكر أيّ شخص تتأمل أن يكون سببًا في راحتك أثناء الهجرة.
o النزوح هو أن تَلعن التاريخ والجغرافيا وأي شيء كان سببًا في ذلك.
- هذا عامكم الجديد، لكن عامَنا ينقُصه ستة وثمانون يومًا وكثيرٌ من الأحباء.
- لا مَكان لنا على هذه اليابسة، لم يتبق لنا إلا البحر لنلقي أنفسنا فيه ونَغْرق لعلّنا نرتاح مِن هذا الفجور.
خِلال مُخاطبة العالَم الخارجي: نَجَحَت التجربة!
- شكرًا أيها العالم، لقد نَجَحَت التجربة.. نَجَحَت التجربة في جعل 2 مليون إنسان يعيشون في أقل من ١٠٠ كيلو متر مربّع، ونَجحت التجربة في تهجير عدد كبير مِنَ البشر مِن منطقة إلى أخرى في أقل مِن ساعات، ونجحت التجربة في استخدام جميع أنواع الأسلحة في قَتل وجَرح وأبادة مجموعة مِن البشر واستكشاف النتائج المترتبة على ذلك، ونَجحت التجربة في مشاهدة الضغط الاجتماعي والأخلاقي والسلوكي على الكائن البشري ودراسة النتائج، ونَجحت التجربة في اختبار قطع الكهرباء بشكل كامل عن مجموعة بشرّية ومعايَنة كيفيّة التكيّف مع ذلك.
ونَجحت التجربة في تَوصيل مساعدات إنسانية فقط ومَعرفة حجم فساد المؤسسات العاملة في هذا المجال، ونَجحت التجربة في معرفة جيولوجية الأرض الساحلية وكيفيّة القتال فيها، ونَجَحت التجربة في اختبار التدمير الكامل وقياس الكربون العالمي وأثره على التغير المناخي في المنطقة.
للأسف نَجحت تجارُبكم...
شكرًا لكم.
عزيزَتي الضِفة الفلسطينية
في ظِل اتساع العدوان لشمال الضفة وازدياد الاجتياحات شراسة، كتبتُ عَن تَجربة غزّة القاسِية مُخاطبًا الضفّة ومتمنيًّا لها النَجاة:
- تذكّروا دائمًا مقولة "أُكِلت يوم أُكِل الثور الأَبيض"، لكن. لا تَقلقوا، فلَدَينا للأسف تجربة لا أتمنّى أن تَعيشوها. بدايةً، إذا طَلب منكم العدو النزوح فكّروا كثيرًا قَبْلها لأنّكم لَن تتخيلوا مصيرَ بيوتكم؛ ربما تُسرق أو تُحرق أو تُدمّر. ستواجِهون دبابات تُدمّر الأخضر واليابس، وطائرات "كواد كابتر" تَسْتلذّ بقتل الأبرياء وتصويرهم وهُم يموتون، لا تَندهشوا إذا رأيْتم الجيش يقتحم المستشفيات فهي ليست آمنة على الإطلاق، وتوقّعوا اعتقال الأطباء والمُمرّضين وحتى المرضى أنفُسهم. أدركوا أنه ربّما لن تجِدوا مقابر لتدفنوا شهداءكم لأن الدبابات سوف تجتاح الأموات قَبل الأحياء. إذا رأيتُم بيوتكم تحترق فقط، ارتاحوا قليلًا لأن حَرق المنازل أهوَن مِن نَسفها وتدميرها. توقّعوا أن تُفجَعوا بأحب الناس إليكم يموتون تحت الرُكام بلا سَبب.
عزيزتي الضفة …. نَحن السابقون وأَنتم اللاحقون، وإنا لله وإنا إليه راجعون. أقولُ قولي هذا ولا حولَ لي ولا قوّة إلا الدّعاء والَصبر والكتابة!
فراس رملاوي
من مواليد 1978 في قطاع غزة، دَرَس المحاسبة وتدرج في مسيرته المهنية حتى أصبح مديرًا لمؤسسة كويكرز في غزة. يُعرف بنشاطه المجتمعي واهتمامه العميق بالعمل الإنساني، حيث يسعى دائمًا لدعم مجتمعه المحلي. فراس أبٌ لخمس بنات، ويعتبرهن جوهر مستقبله وأساس حياته.