غَزّة بِعُيون أَهلها.. مَدينَة تَكره الجُدران وتَغسِل قَلبَها بماء البحر

منذ اللحظة التي بدأت أَعي فيها نفسي، أَدرَكت أنني غزّاوي. تلك الصِفة التي لم أختَرها، لكنها التصقت بي كما التصق البحر برمال غزة، كانت جزءًا مِن هويتي منذ البداية. لم أفهم وقتها ماذا يعني أن أكون غزّاويًا، ولا ماذا يعني أن أكون لاجئًا. كنت أسمع هذه المصطلحات تتردد في الأحاديث، دون أن أفهم ما تحمله من معانٍ. لم يكن الأمر سهلًا على طفل صغير يعيش حالة تنقّلات مستمرة. كنّا نتحرك دائمًا، نتنقل من مكان إلى آخر، دون أن أملك إجابة واضحة عمّا إذا كنت أنتمي إلى هذه الأرض أو إلى مكان آخر.

بدأت تتبلور علاقتي بغزة حين عدنا إليها عام 1997. هناك، اكتشفتُ أن الغزّاويين أنفسهم يصنّفوننا بأنواع: "الغزّاوي الغزّاوي"، و"الغزّاوي اللاجئ". وأنا، بالنسبة لكثير منهم، كُنت من النوع الثاني. صَدَمَتني هذه الحقيقة. كنت أظن أن مجرّد انتمائي لغزة يجعلني جزءًا أصيلًا منها، لكن اكتشفت أن هناك مستويات لهذا الانتماء.

ورغم كل هذه التساؤلات، فَلَم أستطع نكران ما يربطني بغزة. والدي، الذي ولد في غزة وعاش طفولته بين أمواج بحرها، كان يروي لي عن منزل المخيم الذي صارعت جدرانه رذاذ البحر كلّ صباح. كان يتحدث عن وجبته المفضلة، سردين بحر غزة، وعن رحلاته لصيد العصافير في غابة صغيرة محاذية للساحل، أزالها الاحتلال لاحقًا. أما والدتي، التي ولدت في مخيم الشاطئ، فكانت تملأني حنينًا إلى زمن لم أره. كانت تحكي عن صورها على الشاطئ بشعرها الذهبي المتطاير، وعن قصصها مع نساء المخيم وطفولتها المليئة بالتفاصيل البسيطة.

حين كبرت، أدركت أن غزة ليست مجرّد مكان نعيش فيه، بل هي حالة شعورية تعكس كلّ ما نحمله من انتماءات وأحلام. أينما ذهبنا في هذا العالم الواسع، ظلّت غزة هي النقطة الثابتة. عندما عشت في بلدان أخرى كاليمن وسوريا ومصر والأردن، كان الجميع يناديني بـ"الغزّاوي" أو "الفلسطيني". أصبحت غزة هوية، تتجاوز حدود الجغرافيا لتصبح رمزًا لكل من ينتمي إليها.

البحر: ملاذ الروح

في غزة، البحر ليس مجرد شاطئ للاستجمام، بل هو نافذتنا الوحيدة على العالم. بين المدن والمخيمات المزدحمة، يتآكل كلّ شيء، حتى المساحات الخضراء. لم يبقَ لنا سوى الساحل. هناك، بين رماله وأمواجه، نستطيع أن نرى السماء، أن نشعر بالحرّية، ولو لساعات قليلة.

الكافتيريات التي انتشرت على الشاطئ أصبحت جزءًا من هويّتنا اليومية. هي ليست أماكن فاخرة، بل ذات طابع شعبي بسيط، لكنّها تقدم لنا ما لا يستطيع شيء آخر تقديمه: لحظات من الهدوء والتواصل مع الأصدقاء. أسماء هذه الكافتيريات ليست عشوائية؛ كل اسم يعكس حلمًا مؤجلًا أو مكانًا بعيدًا نتوق لرؤيته. "المالديف"، "كافتيريا حيفا"، و"كافتيريا بيسان"، كلّها أسماء تحمل في طياتها الحنين والغربة.

حين أجلس هناك، في واحدة من هذه الكافتيريات، أنظر إلى البحر وأتساءل: كيف استطاع هذا المكان الصغير أن يحمل كل هذا الجمال وكلّ هذا الألم؟ كيف يمكن أن يكون البحر، الذي يعكس ألوان السماء، شاهدًا على قصص مِن الفقد والصمود؟

تفاصيل الحياة اليومية

الحياة في غزة مزيج من التناقضات. البساطة تتداخل مع التعقيد، والفرح يمتزج بالحزن. هنا، ترى القرويّ الذي أصبح تاجرًا في سوق غزة، والمخيّم الذي تحول إلى حيّ صاخب يعجّ بالحياة. الغزّاوي، بطبيعته، شخص مِضياف، يفتح بيته وقلبه لكلّ من يزوره. أذكر كم كنّا نحرص على تعريف زوارنا بكلّ تفاصيل حياتنا، من الأطباق التي نعدّها بحبّ، إلى الأحاديث التي لا تنتهي عن قصص المدينة وأهلها.

ورغم كلّ هذا، هناك شيء واحد يوحّدنا جميعًا: كُره الجدران. الجدران التي تحيط بنا ليست مجرّد حواجز إسمنتية، بل هي رموز للقهر والحصار. هي التي تفصلنا عن أحلامنا، عن فرصنا في العمل والتعلّم، عن السفر واستكشاف هذا العالم الممتد. ومع ذلك، نحن نحلم كلّ يوم بزوال هذه الجدران.

التنوع والانسجام

غزة، رغم صغر مساحتها، تحمل تنوعًا مذهلًا. فيها المدن الكبرى كغزة وخان يونس، والقرى الزراعية التي أصبحت مدنًا مثل بيت حانون وبيت لاهيا، والمخيمات التي تحمل قصص اللاجئين، وأيضًا القرى البدويّة التي تضيف طابعًا خاصًا. هذا التنوع يجعل غزة مكانًا فريدًا، حيث تتداخل الثقافات والعادات لتخلق نسيجًا اجتماعيًا متماسكًا.

في كل زاوية من غزة، هناك قصّة تستحق أن تُروى. حين تمشي في أسواقها القديمة، يُدهشك ذكاء التجار وطريقتهم المميزة في الترويج لبضائعهم. وعندما تزور بيت حانون، تشعر بكرم الفلاحين وبساطتهم. وفي المخيمات، ترى الطيبة التي تسكن قلوب الناس رغم كل ما يعانونه.

طعام غزة: نكهة الأصالة

الطعام في غزة ليس مجرّد غذاء، بل هو تجربة تعكس روح المكان وأصالته. الفلافل الغزاوي، بتلك اللمسة المميزة من الفلفل الأحمر الحار، له طعم لا يشبهه طعمه في أي مكان آخر. شاورما غزة، بأسرار تتبيلتها، تُقدَّم كأنها هدية للروح قبل الجسد. هناك أطباق أخرى تحمل في طيّاتها ذاكرة الأجيال، مثل المقلوبة والمفتول، وكلّها تعكس ارتباط أهل غزة بتراثهم.

جمال يتحدى الألم

غزة ليست مكانًا يمكن اختزاله في كلمات. هي حياة تُعاش بكلّ تفاصيلها، بكلّ أفراحها وأحزانها. من الصعب أن تصف غزة دون أن تتذكر تلك اللحظات التي جَمَعتك بأحبائك، أو تلك الصور التي تخزنها ذاكرتك عن شوارعها وأحيائها وشاطئها.

غزة ليست صغيرة كما تبدو على الخريطة. في عيون أهلها، هي بحجم الكون. هي الحلم الذي يرفض أن يموت، والجمال الذي ينبعث من بين الأنقاض. غزة هي الحياة بكل ما تحمله من تناقضات.

ورغم كل ما تمرّ به، ستعود غزة لتنهض وتزدهر وتضُجّ بالحياة.


تصوير: معتز عزايزة.

علي عبد الباري

فلسطيني من غزة، ناشط اجتماعي وعامل في المجال الانساني و برامج الشباب، مهتم بقضايا التنمية التحررية

رأيك يهمنا