لماذا قد تتلاشى ثروة الحياة البرية في الجولان المحتل؟

لم نعرف يوماّ كيف كان الجولان قبل احتلاله عام 1967، ودائماً ما تساءلت: هل كان مليئاً بالسكن والسكان ولا مكان للطبيعة فيه بعكس ما نراه اليوم؟ إذ هجّر الاحتلال الإسرائيلي أكثر من 300 قرية، ومدينة ومزرعة وما يقارب 142 ألف نسمة. هل كان مليئاً بالنشاط البشري والزراعة والمراعي والسفر والصناعة؟ إذ أن الحيز اليوم يظهر خالياً بغالبيته، لا حضور فيه سوى لمعدّات الجيش الإسرائيلي، وهل كانت الطبيعة والحياة البرية في المنطقة كما نعرفها اليوم مكاناً يمتلئ بالسهول الخضراء والغابات والتلال والهضاب والحيوانات؟ 

لم أتمكن أبداً من تقدير أو تخيل التغيير الذي طرأ على المشهد الحضري والطبيعي في الجولان المحتل بعد الاحتلال والتهجير. في كل مرّة يسعد فيها الناظر عند السفر في ربوع الجولان المحتل الآن، لا بد من ملاحظة القرى المهجرة، الأبنية السوريّة المهدّمة وحقول الألغام. لذلك، يخطر في ذهني دائماً أن الجولان المحتل تحوّل من مساحة مليئة بالسكان والقرى والإنسان كان يقطنها ما يقارب 150,000 ألف شخص عام 1967، إلى مساحة خالية بغالبيتها تتيح المجال للطبيعة بالتوسّع وتسمح للحيوانات بالسيطرة على المكان، إذ يقطنها اليوم "فقط" 28 ألف سوري في قرى مجدل شمس، بقعاثا، مسعدة، عين قنية والغجر، ويستوطن فيها 29 ألف مستوطن إسرائيلي اليوم.

منذ احتلال الجولان، فشل سعي إسرائيل للاستيطان فيه، لتبقى غالبية مساحته تحت سيطرة حقول الألغام ومواقع عسكرية للجيش الإسرائيلي والمراعي للمستوطنين وماشيتهم. لهذا استطاعت الحياة البرية أن تسيطر على مدار عدّة عقود، على الحيز والمكان. مصائب قومٍ عند قومٍ فوائد – كما في كل أنحاء العالم، فإن هذا "الفراغ" الحضري، وسببه التهجير القسري، سمح للحيوان بالازدهار، إذ تكاثرت الطيور، الزواحف والثدييات، ليصبح الجولان المحتل إحدى أكثر المناطق المليئة بالحياة البرية في الشرق الأوسط، والمكان الذي يحتوي على أكبر عدد من غزلان الجبال الفلسطينية المهدّدة بالانقراض وواحدة من أكبر مستوطنات النسور السمراء المهددة بالانقراض والعديد من الزواحف والطيور التي تعيش حصراً في جبل الشيخ والجولان، فضلاً عن أي مكان آخر في العالم.

لكن ليس كل ما يلمع ذهباً، إذ  أصبح هذا "الغنى الطبيعي" مؤخراً في خطر الزوال بسبب ماشية المستوطنين، مشاريع "الطاقة الخضراء" في المنطقة ونشاطات الجيش الإسرائيلي.

التسميم وصراعات المراعي:

في 12.3.2023 أشارت "شركة حماية الطبيعة" الإسرائيلية إلى أن موسم التعشيش هذا، ولأول مرّة منذ احتلال إسرائيل للجولان، لم يشهد أي تعشيش للنسور السمراء،. وأشارت إلى أن سبب ذلك هو تسميم أكبر طائر في بلادنا من قبل مستوطنين يخوضون بين بعضهم البعض صراعات على مساحات المراعي، إذ يقومون بوضع السم لأبقار بعضهم البعض، بدون اكتراث للبيئة والطبيعة. وبما أن النسر يعتاش على أكل لحوم الجيف، فعندما يتغذى على جيفة أبقار تسممت، يتسمم هو ويموت بدوره. للمقارنة، عام 1997 تم رصد 70 عشاً للنسور السمراء في الجولان، أما عام 2017، فقد تم رصد عشّين فقط، وهذا العام لم يبنِ أي نسر أعشاشاً في الجولان!

جريمة التسميم هذه أدت عام 2019 إلى موت 8 نسور دفعة واحدة، وفي عام 2007 مات 7 نسور بسبب صراعات التسميم بين المستوطنين، والحادثة الأكبر كانت عام 1998 عندما مات 28 نسراً في حادثة تسميم واحدة بسبب تسميم المستوطنين لحيوان آخر هو الذئب العربي. للمفارقة، وبالرغم من كل هذه الحوادث الصعبة، وحوادث تسميم أخرى عديدة، لم تقدّم سلطة حماية الطبيعة الإسرائيلية ولو لائحة اتهام واحدة بحق المستوطنين، ومرّت هذه الجرائم "مرور الكرام" بدون محاسبة أي من المسؤولين عنها. وهنا، لا بد لنا أن نقارن، إذ أنه بالتوازي، تم تقديم عشرات لوائح الاتهام ضد مواطنين فلسطينيين أو جولانيين قاموا بقطف العكّوب أو الزعتر من الجولان المحتل، بادعاء "إلحاق الضرر بالطبيعة"...

من الجدير ذكره أن هذا الصراع بين المستوطنين على مساحات المراعي وتسميم الأبقار والحيوانات، لا يضّر بالنسر الأسمر فقط، إنما يمتد هذا الضرر ليلحق بكل الحياة البرية في الجولان، على شكل "سلسلة" من السم تنتقل من جيفة الأبقار إلى النسر والثعلب والذئب والخنازير وغيرها.

مزارع "مراوح الطاقة الخضراء":

في العام 1992، أنشأت إسرائيل أول مزرعة مراوح لتوليد الكهرباء من الرياح على تل الغسانيّة في الجولان المحتل، لتستهل من خلالها مشاريعها لاستغلال موارد الجولان الطبيعية. منذ اتفاقية باريس للمناخ عام 2015، صادقت إسرائيل على إقامة 3 مشاريع لتوليد الكهرباء من الرياح في الجولان تشمل 110 توربينات، بعضها يبلغ طوله 200 متر تقريباً. أحد هذه المشاريع قد تم إنشاؤه فعلا في منطقة تل العرام شمالي الجولان المحتل وبدأ توليد الطاقة في عام 2021.

يشير الباحثون في كافة أنحاء العالم إلى أن مشاريع مراوح توليد الكهرباء من الرياح تلحق ضرراً كبيراً بالطيور، الخفافيش والحشرات، والتي قد تصطدم بهذه التوربينات لتلقى حتفها. أحد الأبحاث الذي قام بفحص عدد الطيور التي لقيت حتفها بسبب توربينات الرياح في منطقة الجلبواع في فلسطين، أشار إلى أن التوربينة الواحدة تقوم بقتل أكثر من 13 طائراً في السنة. في تقدير آخر "لشركة حماية الطبيعة" الإسرائيلية، فإن مشروع التوربينات المقررة إقامته في تل الفرس، جنوبي الجولان المحتل، قد يؤدي إلى قتل 2-5 نسور سمراء و5-7 نسور مصرية في السنة، وهو عدد مهول مقارنة بأعداد هذه المخلوقات في المنطقة، مما قد يتسبب بانقراضها محلياً. 

تدريبات عسكرية:

حوّل الجيش الإسرائيلي مساحات الجولان وقراه المهجرة إلى ساحة تدريبات دائمة وزادت نشاطات التدريب بشدّة خلال السنوات الأخيرة. تتسبب التدريبات في الكثير من الأحيان بحرائق تمتد لعشرات ومئات الدونمات وتقضي على مساحات شاسعة وعلى مئات الحيوانات. 

في صيف العام 2020، تسببت تدريبات الجيش الإسرائيلي بـ 10 حرائق خلال 8 تدريبات مختلفة قضت على أكثر من 7,700 دونم من الغابات في جبل الشيخ، وذلك بالرغم من تحذيرات سلطة الطبيعة الإسرائيلية التي أشارت إلى أن هذه التدريبات قد تؤدي إلى القضاء على بعض أصناف الزواحف والطيور المهددة بالانقراض والتي تعيش فقط وحصراً في جبل الشيخ. بحسب التقديرات البيئية، هنالك أكثر من 20 نوعاً من الطيور تقوم بالتعشيش حصراً في جبل الشيخ، منها النعار السوري، القرقف الحزين، وهازجة الشجر، واستمرارية ووجودها في المنطقة أصبح مهدداً ومرهوناً بتدريبات الجيش الإسرائيلي.

للختام:

ربما لو لم تحتل إسرائيل الجولان ولم يهجّر الاحتلال الإسرائيلي سكان الجولان، لما كانت في الجولان طبيعة خضراء ولأصبح الجولان مكانا مليئاً بالسكان والقرى والأنشطة البشرية والصناعية والزراعية، ولم يكن أي مكان أبداً للحياة البرية والطبيعية فيه، إذ يقدر عدد المهجّرين من الجولان اليوم بمليون نسمة.

وفي الوقت نفسه، لا يمكن إنكار أن سلطة حماية الطبيعة الإسرائيلية قامت على مدار عقود بتوفير حماية ما للطبيعة والثروة الطبيعية في الجولان وسعت لتطويرها وتحسينها. 

لكن، تحوّلت هذه الحماية لسعي انتفاعي ورأسمالي في السنوات الأخيرة، وأصبح "مشروع الجولان" بالنسبة لإسرائيل هو استغلال موارده، بناء مشاريع ربحيّة وسعي للانتفاع مما توفّره الطبيعة، في حين أن من يدفع الثمن هم الحيوانات والحياة البرية في المنطقة. بسبب هذه الأنشطة وتداعيات التغيير المناخي، قد نشهد قريباً انقراض العديد من الطيور والثدييات من بيئة وطبيعة الجولان.

وسام شرف

محام ومصوّر للحياة البرية من قرية عين قنية في الجولان المحتل

شاركونا رأيكن.م