جدتي نسويتي الأولى
جدتي هي النسوية الأولى في حياتي، هي المولودة في مدينة صور جنوب لبنان والتي خبرت طيب الحياة في حيفا وشظف العيش بعد اضطرارها وعائلتها للعودة إلى صور عام 1948. جميلة التي أصبحت لاحقا أم محمد لم تقرأ عن نضالات النساء في أمريكا أو أوروبا، ولم تشارك في ورشات عمل تنظمها جمعية "روزا لوكسمبورغ". لكن جدتي التي ظلت تريد العودة إلى فلسطين، تصرفت بنسوية تقدمية جدا بالنسبة لزمن النكبة والأحلام الكبرى بتحرير الوطن.
جدتي عرفت بفطرة سليمة أن عائلتها ستنجو من قدر اللجوء القاسي إذا عمل أفرادها جميعا، نساء ورجال، لتأمين لقمة العيش الكريمة. وهي لفرط ثقتها بأولاد قلبها، تلقفت منهم الأفكار القومية التي جلبوها مع رفاقهم إلى بيتها يوما بعد يوم، وصارت شريكة أفكارهم وراعية معنوية لأحلامهم.
هذه المرأة التي قسمت المهام المنزلية بالتساوي بين أولادها الصبيان والبنات، هي السيدة التي هتف قلبها حين سمعت عن صبية اختطفت طائرة، فقالت في صحن دارها "هاي عمايل ليلى"، وليلى هي عمتي المولودة في حيفا واسمها الكامل ليلى خالد.
بعد سنوات على عمليات خطف الطائرات ولدت أنا وصرت حفيدة لجميلة ذات الشعر الأبيض كالحليب. لم نعش معا طويلا لتخبرني عن تنظيراتها وأفكارها حول الدور المحوري الذي لعبته في حياة عائلتها، وأقول بثقة في حياة اللاجئين الفلسطينيين في جنوب لبنان.
عام 2006 قابلت حكيم الثورة جورج حبش في العاصمة السورية دمشق، يومها قال لي إن أم محمد كانت من المؤثرات فيه شخصيا وفي كثر من شباب القوميين العرب والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.
ابتسمت كثيرا يومها، شعرت بفخر شديد بجدتي التي خرج من بيتها مناضلون ومناضلات ونسويون ونسويات بعدما تتلمذوا على يدي حبها وغذتهم بفتات قلبها على أفكار الكرامة والحرية والمقاومة.
اليوم أجدني أستكمل حلقة جديدة في مسار رسمته "أم محمد" بممارستها: علمت بناتها في مدرسة داخلية في صيدا الواقعة بين صور وبيروت، ليكنّ من أول معلمات وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "الأونروا" في لبنان، فاكتسبت بالتبعية أهمية العلم. دافعت عن خيارات أبنائها من بنات وصبيان، ومن تحت منديلها الأبيض الشفاف الذي ظلت تضعه على رأسها حتى أواخر أيامها، خرج أبناء بنوا عائلات وعلاقات وطنية واجتماعية تمتد خيوط أنسجتها المتينة مع كثيرين من أبناء فلسطين والشتات والمخيمات.
جدتي لم تكن نسوية بالمعنى المتعارف عليه اليوم، لكنها بنظري النسوية الأولى، هي التي كانت امتدادا للحراكات السياسية النسائية في فلسطين قبل النكبة، والتي شهدت وفهمت أهمية التنظيم السياسي للنوايا الحسنة، فلم تقف في وجه أبنائها حين انخرطوا في مشروع تحرير فلسطين التي تحب.
أنجبت قبيلة من عشاق فلسطين، وزرعت في نفوس أبنائها الاثني عشر جميعا حب البلاد وبقية أهلهم فيها. وبفضلها تربينا نحكي لهجة شمال فلسطين ونحلف بحبها وسنربي أجيالا تحبها مثلنا، مثلما علمتنا حبها، وأكثر.
أنا أفهم النسوية على أنَّها قدرة النساء على تحييد المعوقات الاجتماعية للتمكُّن من تأدية أدوارهن بكفاءة والتأثير فيمن حولهن على أسس المساواة مع الرجل في كل مجال. جدتي هي نسويتي الأولى بجدارة، فهي المعلمة والسياسية المفاوضة ومديرة العلاقات العامة في عائلتها و"ست البيت" التي كانت معاييرها الشخصية للنظافة عالية لدرجة أن تطلب" لحس العتبة". وأنا وبنات أعمامي وعماتي امتدادات عديدة لتلك السيدة التي ماتت بحسرتها وأوصتنا جميعا أن نأتيها بشيء فيه "ريحة البلاد" يؤنس قبرها متى حررنا فلسطين.
تيتا، الرفيقة تيتا: نحفظ الوعد، نساء ورجالا من عائلتك وأصلك الطيب وإرثك الغالي. نحفظ الوعد وان شاء الله سنعود مع طيفك الحبيب إلى حيفا وسننهي حكاية هذا اللجوء الطويل يا ست الدار...
*المقالات المنشورة تعبّر عن آراء كاتبيها.