التعليم في ظل الحرب: عقبات يصعب التغلب عليها
يعيش الغزيون منذ السابع من أكتوبر حرب إبادة أثرت على جميع مناحي حياتهم، فلم يبق مجال إلا وتركت بصماتها عليه، وبشكل عام أخرجت الحربً أهل قطاع غزة من نمط الحياة البشري المستقر المعتاد إلى نمط حياة لم يألفوه أو يستطيعوا التعايش معه، ولعل التعليم هو الأكثر تأثرًا من بين المجالات كلّها.
لا نهدف في هذا المقال إلى تأصيل أزمة التعليم في قطاع غزة ولا طرح أبعادها أو اقتراح الحلول لها، إنما إلى رصد بعض الصعوبات التي قد يواجهها الطلاب والأساتذة والممارسون للعملية التعليمية بشكل عام خلال فترة حرب الإبادة المستمرة حتى كتابة هذه السطور.
تم المساس بكل مكونات العملية التعليمية في قطاع غزة، مما أدى إلى حرمان أكثر من 800،000 طالب وطالبة من حقهم في التعليم، فقد تم تدمير 121 جامعة ومدرسة بشكل كلي - كان جزء كبير منها تحول إلى مراكز إيواء للنازحين - وتضرر بشكل جزئي 333 منها، هذا إلى جانب استشهاد أكثر من 9،000 طالب وإصابة 20،000، كما استشهد 497 معلمًا وإداريًا و110 من أساتذة الجامعات والباحثين، وحرم 40،000 طالب وطالبة من الالتحاق بامتحان الثانوية العامة.[1]
على الرغم من ذلك، فقد تجلت الإرادة الفلسطينية في استمرار العملية التعليمية، سواء من حيث تنفيذ بعض المبادرات التي تسعى إلى إبقاء الأطفال في الخيام وأماكن النزوح في حالة ارتباط بالعملية التعليمية، حتى لو بأعداد قليلة من المواد وضمن فترات قصيرة في اليوم، ومن هذه المبادرات ما تم بجهود شخصية من بعض المدرسين والمدرسات، ومنها ما سعت إلى تنفيذها بعض مؤسسات المجتمع المدني.
على الرغم من أن هذه الجهود مقدرة ومشكورة فإنها تواجه قدرًا هائلًا من الصعوبات، مثل عدم توفر الأماكن الصالحة، ففي الوقت الذي لا يجد فيه النازحون من مكان لآخر موضعًا لنصب خيمة، يصبح إيجاد مكان متسع للقيام بالعملية التعليمية ضربًا من الخيال، وهو ما جعل من بعض الخيام أو الأماكن الضيقة والمكتظة بالنازحين (مع ملاحظة عدم وجودها في المدارس تقريبًا) مكانًا لممارسة تعليم الأطفال، وهذا أدى إلى التزاحم الشديد، وهو ما يعرض الطفل إلى زيادة مخاطر الإصابة ببعض الأمراض المعدية خاصة الجلدية والنفسية منها.
كل هذا يستوجب طرح التساؤل المشروع حول مدى استفادة هؤلاء الطلاب من هذه المبادرات دراسيًا، أم أن الأمر مجرد إثبات أننا نواصل العملية التعليمية، وطرحها كشكل من أشكال الصمود دون الاهتمام بمخرجاتها؟
أما في مجال التعليم الجامعي فقد يكون الأمر أكثر تنظيمًا، حيث جرت الاستفادة من تجربة سابقة قريبة نسبيًا من حيث الزمن، هي تجربة كورونا، بالالتجاء إلى التعليم الإلكتروني كبديل للتعليم الوجاهي في الجامعات، حيث اتخذت معظم الجامعات في قطاع غزة قرارًا بالتوجه إلى التعليم الإلكتروني عبر منصات التعليم المختلفة، بما يغطي المواد النظرية، فيما تؤجّل المواد التي تحتاج إلى الجوانب العملية والمختبرات إلى ما بعد الحرب.
وقد سبق هذا الأمر مبادرة أطلقتها وزارة التربية والتعليم مع جامعات المحافظات الشمالية لتسجيل طلبة غزة كطلبة زائرين لديها عبر منصاتها الإلكترونية.
والحقيقة أن هذه مبادرة جيدة سواء من قبل الوزارة أو جامعات المحافظات الشمالية التي لحقت بها جامعات القطاع. فهي تتيح للطلبة استغلال الوقت ودراسة بعض المساقات التي لا يحتاج تدريسُها التواجد الوجاهي، وبما يستهدف خصوصًا الطلبة الذين لا يتطلب تخرجهم استيفاء عدد ساعات كبير، لكن هذه المبادرة سيف ذو حدين، فتجربة الكورونا التي جرت في ظل توفر إمكانيات أفضل مما عليه الحال في الظروف الحالية، لم تسجّل النجاح الذي يجعل من اللجوء إليها خيارًا مقبولًا من حيث المبدأ، غير أن الظروف الاضطرارية الحالية ألزمت بالعودة إليها.
كان أكبر الانتقادات الموجهة للتعليم الالكتروني في قطاع غزة في ظل جائحة كورونا عدم جاهزية البنية التحتية والقدرات الإلكترونية للجامعات لمثل هذا النوع من التعليم، فما بالك ونحن الآن في حالة حرب، وقد جرى تدمير الكم الأكبر من البنى التحتية في قطاع غزة إلى جانب المباني والمقاسم، ولم يتبق سوى بعض خطوط الإنترنت التي تعاني من ضعف شديد، وأن الطالب وأهله غير قادرين على توفير الاحتياجات الأساسية للحياة من طعام وماء ومواد نظافة، فما بالك بالقدرة على توفير خط إنترنت سواء في الخيمة أو البيت؟ يضطر كثير من الطلبة في سبيل التغلب على هذا الأمر إلى اللجوء إلى شبكات الشوارع عبر بطاقات بسيطة بشيكل أو شيكلين توفر مدة بسيطة من عدة ساعات، وعلى الرغم من ذلك فإن اتصالها -في حالة وجودها- ضعيف جداً قد لا يتيح مجرد فتح موقع الجامعة للولوج إلى المنصة، فما بالك بتحميل المحاضرة أو التكليف أو الامتحان؟
ومن الطالبات من لا تتوفر لديهن حتى هذا الشبكات في أماكن نزوحهم، فيضطررن للخروج إلى الشوارع الرئيسة التي تتوفر فيها، ولو تحدثت عن الأمر من خلال التجربة الشخصية، فإن الكثير من الطالبات تواصلن معي للشكوى من عدم القدرة على الولوج لصفحة المقرّر، سواء لضعف الإنترنت أو لعدم وجود الشبكات أصلًا، مما يضطرهن للسير مسافات طويلة للحصول على اتصال في ظل ظروف غير آمنة وعدم توفر مواصلات أو شوارع معبدة، وعلى الرغم من مغامرة البحث عن إنترنت فقد لا يستطعن الدخول لمجرد تحميل محاضرة أو تحميل تكليف وحلّه.
لاحظت ذلك من معلومات المشتركين في المساق التي تبين تاريخ آخر دخول للطالب للمساق، إذ لم يدخل أكثر من ثلث الطلاب والطالبات إلى المساق مطلقًا على الرغم من أنهم قد قاموا بتسجيله.
أما الأساتذة فإنهم ليسوا أحسن حالًا من طلابهم، ذلك أن أحكام النزوح المتكرر تسري عليهم كما تسري على غيرهم، وهو ما يجعل الأمر أصعب، فلا مجال للشعور بالاستقرار أو الالتزام بتحميل المحاضرات أو عمل الاختبارات في أوقات معينة، ذلك أنه ليس هناك ما يضمن وجود الشبكة التي يتم التحميل عبرها، أو قوتها للقيام بذلك واستمرارها وعدم تقطّعها، وقد حدث أن سعيت شخصيًا إلى تسجيل محاضرة واحدة لأكثر من ثلاث مرات، وفي كل مرة ينقطع الاتصال بالشبكة في أثناء التسجيل مما يضطرني إلى العودة من جديد، ناهيك عن صعوبة التحميل في كل مرة.
من جانب آخر، ليس هناك شعور لدى الطلاب أو حتى الأساتذة أن هناك عملية تعليمية حقيقية، وبالتالي ليس هناك تحصيل معرفي بالحد الأدنى لمفردات المساق الأكاديمي ومحتوياته، وبالنتيجة فإن عملية التقييم إذا كانت حقيقية، وأمكَن أن تتم، فإنها لن تكون عادلة.
إلى جانب كل ما تقدم -وربما قبله- فإن احتياجات الحياة اليومية من طعام وماء وقضاء حاجة وعلاج وشعور بالأمان، التي يحتاجها الإنسان بغض النظر عن صفته طالبًا أو أستاذًا أو غير ذلك، يشكل الحصول عليها أزمات يومية متكررة، وهي تشكل أولوية على التعليم، لذلك قد يكون من الصعب في ظل هذه الأحوال الحديث عن التعليم في ظل اجتهاد الناس في البحث عن مجرد البقاء على قيد الحياة.
[1] نقلا عن وزير التربية والتعليم الفلسطيني في تصريحاته بتاريخ 10 يوليو 2024 https://wafa.ps/Pages/Details/99113
د. سامي غنيم
أكاديمي وباحث فلسطيني من قطاع غزة