فُرصة السّياحة السانحة
لم يخطر ببالي قط، قبل حوالي عشر سنوات من اليوم، أني سأكون أحد المدعوين الى إضاءة بعض من جوانب حلبة الصّناعة السّياحيّة، أمام الجمهور الواسع، وأن أكون من الدّاعين، من خلال هذه المدوّنة المقتضبة بناء على طلب هيئة التحرير، الى ضرورة الاستفادة القصوى من هذه الفرصة السانحة التي توفرها معطيات بلادنا لعشرات الوف العمّال المهنيّين والمبادرين الاقتصاديّين، بتاريخها وعراقتها وتنوعها الجغرافي والأهم الأهم كونها قِبلة لمئات ملايين المؤمنين في العالم بصفتها ارض الديانات السّماوية الثّلاث رغم تبوّئها مركزا عالميا لتوترات أمنيّة وسياسيّة مزمنة وفي صلب ذلك غياب حل عادل ودائم للمسألة القوميّة الأساس، ألا وهي قضيّة حرية واستقلال شعبنا الفلسطيني. أضف الى ذلك كون القطاع السّياحي، كما هو معروف، هو الخاصرة الرخوة لكل اقتصاد على مستوى هذه الدولة او تلك، وهو المتضرر الأول امام أي هزّة أو أزمة تحدث على مستوى العالم او منطقة إقليمية معيّنة في العالم او في دولة ما، وهذا ما شهدناه خلال سنوات وباء الكورونا مثلا أو في اعقاب عدوان احتلالي على غزة أو لبنان وقس على ذلك.
ورغم ذلك، وبالرغم منه، فممّا لا شكّ فيه أن الصناعة السّياحيّة باتت تعتبر إحدى ركائز العمل والنشاط الاقتصادي والمهني لآلاف من أبناء وبنات المجتمع العربي الفلسطيني في الداخل والخير لقدّام.. أكان ذلك على مستوى المبادرات الاقتصاديّة والاستثمارات الإنشائيّة او توفير وتقديم الخدمات السيّاحيّة، أم على مستوى امتهان أحد مجالات النشاط السّياحي، من موظفي شركات طيران ومكاتب سياحة وسفر الى طواقم الخدمات الفندقيّة، ومنهم الى سائقي الحافلات السّياحيّة ويليهم مرشدو السّياحة ومن ثم العاملين في محلات التّذكاريات والمطاعم....، علما انّه لا يمكن حصر العمل السّياحي فقط في هؤلاء الذين يعملون في تقديم الخدمات السّياحيّة المباشرة، أكان ذلك في مجال السّياحة الوافدة أم السّياحة الداخليّة أم السّياحة الخارجة.
منذ أن لفت نظري أحد الأصدقاء العاملين في مجال توزيع الخبز على الفنادق والمطاعم ومحلات الأكل السريع أنه هو "الباروميتر" لمقياس مدى انتعاش الحركة السّياحية او انكماشها، لأنّه يعرف ذلك وفق كميات الخبز التي يقوم بتوزيعها يوميا، استوعبت كم هو خيّر مطر السّياحة فعندما تُمطر فإنها تمطر خيرا على الجميع بما فيهم البعيدين عن محاور العمل السّياحي المباشر.
أخط هذه الأسطر كوني أعمل، منذ فترة قصيرة نسبيا لا تزيد عن عشر سنوات، مرشدًا سياحيًّا لمجموعات الحجاج الأجانب، وبالأساس منهم الحجاج البلغار، كَوني أتحدث اللغة البلغاريّة، ومجموعات أخرى من متكلمي اللغة الإنجليزية، الذين يأتون إلى الأرض المقدّسة أو إلى فلسطين التاريخيّة أو إلى إسرائيل أو إلى مناطق السلطة الفلسطينيّة، وكل مجموعة تختار لذاتها التعبير الأقرب لها ولقناعاتها الدينيّة والتاريخيّة والسياسيّة، وعن التوازن بين الإرشاد المهني والرسالة التي يجب أن يحملها المرشد/ة خلال تعامله/ا مع السوّاح الأجانب سأتحدث في السياق لاحقا.
مع وزيرة السّياحة الفلسطينيّة د. رلى المعايعة ومبادرة لتطوير العلاقات بين شقي الخط الأخضر
وهنا أرى من واجبي أن اتحدث عن تجربة فريدة تتعلق بالتنظيم الذاتي للمرشدين العرب في الداخل تحت مسمى "منتدى مرشدي السيّاحة العرب" الذي يشكل عنوانا مهنيا وإثرائيّا وتعاونيّا وأخلاقيّا للمرشدين والمرشدات العرب ويحمل رسالة وطنيّة تشدّد على ضرورة تقديم الحقائق للسائح بكل موضوعيّة وفي أساسها رواية شعبنا في وطنه المغيّبة عن المنهاج الدراسي الذي يُعِدّ ويؤهّل المرشدين عموما في البلاد.
في المصلى المرواني في ربوع الاقصى الشريف خلال يوم إثرائي من تنظيم منتدى مرشدي السّياحة العرب
و"المنتدى" هو إطار طوعي واختياري، جرَت المبادرة إلى تأسسيه قبل أقل من خمس سنوات ليجمع حوله مئات المرشدين والمرشدات العرب، من الجليل والمثلث والنقب ومدن الساحل والمدن المختلطة، من حملة رخصة الإرشاد القانونيّة وهي الرخصة الوحيدة التي تعطي لحاملها/لحاملتها الحق في إرشاد المجموعات السّياحية وهذه الرخصة يحصل عليها كلّ من اجتازَ/اجتازت دورة دراسيّة وعملية مكثّفة مع امتحانات عبور تعادل بمجملها الدراسة الجامعيّة للقب الثاني. كانت هذه الدورة تواصلت في السابق على مدار سنتين اكاديميتين ومؤخرا جرى تكثيفها لفترة تزيد قليلا عن السنة، من خلال اختزال بعض المواد الدراسية الملزمة نظرا للحاجة إلى المزيد من الكوادر الإرشاديّة المؤهلة على ضوء عودة انتعاش الحركة السياحيّة وتوقع توسّعها المستقبلي. ويجب أن انوه هنا إلى مسألة قانونيّة بأن من يضبط من قبل مفتشي وزارة السياحة وهو يرشد أية مجموعة سواح وباي عدد كان، أجنبيّة كانت أم محليّة، دون رخصة مرشد يعرض نفسه للمساءلة القانونية ودفع غرامة باهظة وذلك كجزء من الحفاظ على مهنة الإرشاد من الطفيليين على المهنة، كما هو الحال مع العديد من المهن القانونيّة في البلاد، وهذا الامر ينطبق على معلمي المدارس بشكل جزئي حيث يحق لهم إرشاد طلاب المدارس فقط، وذلك بعد حصولهم على "شارة وظيفة/مِلاك" أو ما يسمى بالعبري "תו תקן" في اعقاب مشاركتهم بدورة استكمالية لمدة ثلاثة أشهر فقط تؤهلهم لإرشاد طلاب المدارس تحديدًا لا غير.
يوم دراسي إثرائي ميداني من تنظيم منتدى مرشدي السّياحة العرب وبمشاركة عشرات الزملاء والزميلات
شكّل قيام المنتدى وتراكم نشاطاته حافزًا الى الدفع في تكثيف حضور المرشدين والمرشدات العرب في المشهد السيّاحي العام في البلاد، وذلك نظرا لقدرات الزملاء والزميلات المهنيّة واللغويّة بالأساس، حيث هناك تشكيلة واسعة من اللغات التي يتقنها الزملاء والزميلات والتي تلبّي حاجة السوق من متكلمي اللغات المختلفة من الإنجليزية حتى الصينيّة، ومن الاسبانيّة حتى الاندونيسيّة مرورا بالروسيّة والبلغاريّة والتشيكيّة والألمانيّة والفرنسيّة والإيطاليّة والبرتغاليّة وغيرها من اللغات المطلوبة سياحيّا.
وليس من دليل أكبر على هذا الحضور الوازن للمرشدين العرب غير الحقيقة الجديدة المتمثلة بوجود ثلاثة زملاء (مرسي أبو الهيجاء والياس أبو عقصة وكاتب هذه السطور) في الهيئات العليا للنقابة العامة لمرشدي السياحة في البلاد، والتي تفاوض في هذه الأيام على جبهتين، جبهة توقيع اتفاقية عمل جديدة مقابل اتحاد مكاتب السياحة وجبهة توحيد إطاري مرشدي السياحة في البلاد (النقابة العامة ومجموعة "موريشت" للسّياحة الوافدة) تحت سقف وإطار واحد جامع لكافة مصالحهم وحماية حقوقهم بشكل موحّد وأقوى. وعلى كلا الجبهتين يشارك الزملاء العرب بشكل فعّال، مساهمين في التقدّم وحلّ جميع الإشكالات والعوائق بما يخدم مصلحة مرشدي السّياحة عمومًا والعرب منهم تحديدًا.
مظاهرة من اجل حماية السّياحة والعاملين فيها مع بداية الكورونا وضد قرارات الحكومة
من كل ما تقدم، وعلى الرغم من الإيجاز الاضطراري، أستطيع القول وبثقة أنّ فرصة العمل في مجال السّياحة سانحة ومتوفرة للجميع، رجالا ونساء على حد سواء، وهو مجال منوّع وممتع ومهني مع مردود مادي محترم بالإضافة الى كونه عملاً ذا رسالة مشرّفة يحملها كلُّ من اختار العمل في هذا المجال.