مِنَ "الحُلم العَربي" إلى "النّفط الخَليجي": عِندما يتحوّل الفنّ مِن صوتٍ جامِع إلى مرآةٍ للفُرقة

في مُنتصف التسعينيّات مِن القرن المنصرم، وُلِد أوبريت "الحُلم العَربي". لم يكن هذا العمل الغنائي مجرّد كلماتٍ مصفوفةٍ أو لحنٍ جميلٍ، بل كان صيحةً وجدانيةً غمرت قلوب وعقول الشعوب العربيةِ قاطبةً وحَمَلت صورةً لأُمةٍ، كانت -وقد تكون لا تزال- تؤمن بأنها تَستطيع أن تكون واحدة. لَم يكُن العرب بحاجةٍ لبياناتٍ سياسيةٍ بعد الأوبريت، أو لمؤتمرات قمةٍ كي يَشعروا أنهم شعب واحد، بل كان عليهم أن يجعلوا من الأوبريت، نشيدًا وطنيًّا، يردَّد على مسامع الجميع صباحًا بعد فقرة فيروز اللبنانية الفلسطينية العربية، ومساءً بَعد فقرة أم كلثوم المصرية الفرعونية العالمية!
جاءت تلك الأغنية كتعبير فنيّ عن وحدةٍ منشودة، وكان توقيتها مِفصليًّا. لم يكن صوت الفنانين الذين شاركوا فيها مُجرّد غناء، بل نداءٌ جماعيّ عبّر عن وجدان ملايين العرب، مِنَ الخليج إلى المحيط، الذين رأوا في كلماتها ولهجاتها المختلفة تجسيدًا حيًّا لفكرة العروبة، واحتفالًا بالتعدّد الذي يَجمع لا يفرّق. ولم تكن مصادفة أن تستعيد الأغنية زخمها في العام 2000 مع اندلاع الانتفاضة الثانية، حين تَصاعَدَت مشاعر الغضب والكرامة، وعادَت فلسطين إلى قلب المَشهد، لا كقضية هامشيّة، بل كبوصلة جامعة، استدعَت معها هذه الأغنية لتكون نشيدًا للمقاومة، والكرامة، والحُلُم المشتَرَك.
غَيرَ أنّ هذا الحُلُم لم يُكتب له أَن يستمر طويلًا. فما إن تقدّمت السّنوات، حتى بدأت رياح السّياسَة تهبّ على المَشهد الثقافي العربي، وتُدخِله في حسابات ضيّقة أَضعَفَت رسالته. فقد تحوّلت الثقافة مِن مساحة للتّلاقي والتّعبير الحرّ، إلى أدواتٍ توظّف لخدمة سرديّات رسميّة، وتَعزيز حُضور دول معينة على حساب المَجموع. ومع هذا التحوّل، تراجعَت الأعمال الفنية التي تحمل همًا جمعيًا، وحلّت محلّها إنتاجات تمجّد الإنجاز الفردي أو الوطني، دون ارتباط حقيقي بقضايا الأمة أو مَشاعر الشعوب. أصبح الحُلم العَربي نِفطًا في الخليج، وغازًا في قطر، واستثمارًا في الإمارات، وتدميرًا للعراق، ونهبًا لليبيا، وتقسيمًا للسودان، وقتلًا لفلسطين، وغيره الكثير!
شيئًا فشيئًا، انسَحَب الخِطاب العربي الجامع مِن الحَقل الفني. تراجعت فلسطين، التي كانت لسنوات طويلة مركز الثّقل الثقافي والأخلاقي في العالم العربي، مِن موقعها المتقدّم إلى موقع رمزيّ هامشي. بات حضورها محصورًا في المناسبات، أو في لقطات سريعة تُضاف لإرضاء الحسّ القومي، دون أن تكون في صُلب الرسالة أو الدافع الإبداعي. واختفت الأغاني التي تُغنّى للقدس، أو تحكي عن الأسرى، أو تبكي الشهداء، لتحلّ محلّها أغنيات تتحدث عن الرفاه والتّرف، أو عن "النجاح" المنفصل عن السياق الجماعي.
المفارقة أن المَشهد الفلسطيني الثقافي نفسه، ورغم اشتباكه العَميق مَع الواقع السياسي والمعيشي، بدأ أيضًا ينكفئ نحو الدّاخل. صحيح أن الفلسطينيين لا يزالون يبدعون، ويكتبون، ويغنّون، ويصوّرون، لكنّ صوتهم لم يَعُد يَصِل كما كان من قبل إلى الضمائر العربية. لقد تحوّلت فلسطين، رغم أنها لا تزال ترمز للعدل والنضال، إلى صوتٍ محاصر ضمن حدود الجغرافيا والهموم اليومية، وتراجع دورها التاريخي كرمز للتضامن الإنساني العالمي.
لقد كان الفنّ الفلسطيني في يومٍ من الأيام يُلهم حَركات الحرّية مِن جنوب أفريقيا إلى أمريكا اللاتينية، ويُسهم في تشكيل الوعي الجَمعي العربي والعالمي، لكنّه اليوم بات أكثر انشغالًا بمعاركه الداخلية، وهو أمرٌ مفهوم في ظلّ حجم القمع والعزلة، لكنّه يبقى خسارة للثقافة العربية ككل.
وفي هذا السياق، لا بُدّ مِن طَرح سؤال صادق: ما الذي نحتاجه اليوم؟ هل نُعيد إِنتاج "الحُلُم العربي" القديم؟ أَم أنّنا بحاجة إلى مشروع ثقافي عربيّ جديد، أكثر صدقًا وشجاعة، يُلهم الجيل الحالي كما أَلهمت الأغنية السّابقة جيل التسعينيّات؟
إن المطلوب اليوم ليس اجترارَ الماضي، بل البِناء عليه. نحن بحاجة إلى عمل ثقافي جماعي يُعيد ربط الشّعوب العربية ببعضها، على أساس الكرامة والحرّية والعدالة. عمل لا يروّج للأنظمة ولا يخضع لميزانيات البَذَخ السياسي، بل يُعبّر عن الناس الحقيقيين؛ عن العاطلين، والمقموعين، والمنفيين، واللاجئين، والذين ما زالوا يصرخون في وجه الظُلم. نحن بحاجة إلى فنٍّ لا يتزيّن، بل يتألّم. إلى أغنية لا تُغنّى في الحفلات المُغلَقَة، بل تُردَّد في الشوارع والمخيمات. نحتاج إلى أن نستعيد العلاقة الأصلية بين الفنّ والمقاومة، بين الكلمة والكرامة، بين الّلحن والحرّية.
ولا يَسِعنا في هذا المقام إلا أن نُذكّر بكلمات الشّاعر هشام الجخ، الذي لامس في إحدى قصائده جوهَرَ هذا الحُلُم حين قال:
"وُلِدتُ بتونسَ الخضراءِ من أصلٍ عُمَانيٍّ
وعُمري زادَ عن ألفٍ وأمي لم تزلْ تحبَلْ
أنا العربيُّ، في (بغدادَ) لي نخلٌ، وفي (السودانِ) شرياني
أنا مِصريُّ (موريتانيا) و(جيبوتي) و(عَمَّانِ)
مسيحيٌّ وسُنِّيٌّ وشيعِيٌّ وكُرْدِيٌّ وعَلَوِيٌّ ودُرْزِيٌّ
تَشَتّتنا على يَدِكم وكلّ الناس تتكتَّلْ،
سَئِمْنا مِن تشتُّتِنَا وكلُّ الناسِ تتكتَّلْ،
أتجمعُنا يدُ اللهِ.. وتُبْعِدُنَا يدُ (الفيفا)؟؟!!"
هذه القصيدة ليست مجرّد كلمات، بل وثيقة ثقافية تُذكّرنا بأنّ ما يجمعنا أقوى مما يُفرّقنا، وأن الشعوب، مهما تعرّضت للخذلان، لا تزال تحفظ في داخلها نبض الوحدة.
ربما لم يَعُد الحُلُم العربيّ كما كان، وربما تكسّرت بعض أوتار الأغنية القَديمة، لكننا ما زلنا بحاجة إلى الحُلُم. بل إننا لا نَملك تَرَف التخلي عنه. فإن لم نَعُد قادرين على جَمع الفنانين في عملٍ واحد، فليكن كلّ فنان صادق هو بذرة لحلمٍ جديد. نحن بحاجة إلى فنّ يُعيدنا إلى إنسانيتنا، ويَمنحُنا اللغة لنتحدث مع بعضنا من جديد. فإن كان الماضي قد أعطانا "الحُلُم العربي"، فلنعطِ نحن أبناء هذا العصر حُلُمًا جديدًا، ينتمي للناس، ويشبههم، ويمنحهم أملًا بأن الغد لا يزال ممكنًا.

أحمد ياسين
ناشط شبابي من مدينة رام الله، حاصل على شهادة الماجستير في تنمية المجتمعات الدولية، بتركيزٍ على تأثير الحركات الاستعمارية على المجتمعات وطرق تنميتها. يعتبر أحمد أحد الممثلين عن الشباب الفلسطيني في المحافل المحلية والدولية، وقد تحدّث عن فلسطين والقضية في مجلس الأمن، ومقر الاتحاد الأوروبي، وغيرها من المنصات الدولية والمحلية. يترأس أحمد مجلس إدارة مؤسسة الرؤيا الفلسطينية في القدس، وينشط مع مؤسسات الأمم المتحدة للمشاركة في تعزيز دور المرأة العربية والفلسطينية وتمكين مشاركتها.