ديزني" وإِسرائيل… كيف يتسيّس التّرفيه؟

لم تكن "والت ديزني" مجرّد شركة رائدة في قطاع الترفيه والرسوم المتحرّكة. ربّما فَعَلت أكثر من ذلك، بأن خلقت رموزًا خَلَدت لأجيال في عالم الطفولة؛ كميكي ماوس والحسناء صديقة الأقزام السبعة. لكن خَلْفَ هذه الوجوه الأيقونيّة الرقيقة، ثمّة وجهُ مهرّج مرعب، يطلّ في مفاصل زمنيّة معيّنة، ويُظهر ارتباط الترفيه؛ أو ديزني، بالحروب والسياسة.

"بدأت استوديوهات "والت ديزني" طريقها كاستوديوهات لإنتاج سينما الأطفال والجماهير الصّغيرة. لكن سرعان ما تحوّلت إلى إمبراطوريّة اقتصاديّة، تتعدّى الحدود السياسيّة وتمثّل مثالًا لنفوذ العولمة وقدرتها على بلْورة الفكر الجماهيري"، يقوللؤي وتد؛ الناقد والباحث الفلسطيني في عِلم اجتماع وثقافة الأطفال.

فخلال حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة، توالت حملات مقاطعة "والت ديزني" والشركات التي تمتلكها، من داعمي القضية الفلسطينية في العالم.

وربما كانت شرارة هذه الحملات، خطوة "ديزني" الأولى في "دعم دولة جيش الإبادة"، حين أعلنت الأخيرة عن تقديم تبرّعات لإغاثة إسرائيل بمبلغ مليونيّ دولار، فور هجوم السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023.

وصرّح روبرت إيجر، رئيس مجلس إدارة "ديزني"، في هذه المناسبة، قائلًا: "في أعقاب الهجمات الإرهابيّة المروّعة التي استهدفت اليهود في إسرائيل، يَجب علينا جميعًا أن نفعلَ ما في وُسعنا لدعم الأبرياء الذين يُعانون من الكثير من الألم والعنف وعدم اليقين- وخاصّة الأطفال".

بعد هذا "التعاطف"، التقت "ديزني" بإسرائيل في مشاريع عدّة، خِلال حرب الإبادة، لتتبدّى معها علاقةٌ أكثر عمقًا، وربّما لن تُفهم تمامًا كواليسها التي تَحكمها المصالح الاقتصاديّة المعقّدة؛ التي يستتر منها أكثر ممّا يُكشف.

مُقاطعة مَن "يجمّل وجه الإبادة"

ومن بين حملات المقاطَعة، أيضًا، حملة انتشرت إثر ظهور جنديّة إسرائيليّة شاركت في الحرب على غزة، في فيلم "Snow White" أو "بيضاء الثلج". حيث طالبت "حركة مقاطعة إسرائيل- BDS" بمقاطعته، بعد أن تبيّن أن المجنّدة الإسرائيليّة التي شاركت فيه؛ غال غادوت، "نظمت عروضًا لفيلم دعائيّ عسكريّ إسرائيليّ، يحاول تبرير ما يستحيل تبريره: الإبادة الجماعيّة الإسرائيلية المستمرة بحقّ 2.3 مليون فلسطيني في قطاع غزة المُحتل والمُحاصر". وجاء في بيان الحَركة أيضًا أنّ المجنّدة الممثّلة، "تولّت عن وعي، وبما لا يدع مجالًا للشك، دور سفيرة ثقافية لإسرائيل، محاولةً بشكل يائس تجميل نظام الاضطهاد المستمر منذ 76 عامًا بحقّ الشعب الفلسطيني".

ثمّ سرعان ما تَبِعتها حملة مقاطعة أخرى، تعرّضت لها شركة "مارفل" التي تمتلكها "ديزني"، بعد بثّها الإعلان التشويقي لفيلم "كابتن أميركا: عالم جديد شجاع"، (بدأ عرضه في شباط/ فبراير2025)، تزامنًا مع عرض فيلم "بيضاء الثلج"ن حيث رأى المتفرّجون في الإعلان شخصيّة عميلة موساد إسرائيلية تحمل اسم "صبرا"، وهي الشخصية الإسرائيلية الخارقة؛ "The Israeli Super hero"، وإحدى شخصيات "مارفل" التي ظهرت في الثمانينيات، في سياق عنصري ومعادٍ للعرب.

صبرا

إِثر هذه الضغوط، وليس بالضرورة بسببها، قرّرت الشركة استبدال شخصية "صبرا" بـ"روث بات سيراف"، التي أعلنت "مارفل" عنها أنها "مسؤولة حُكومية رفيعة المستوى".

من جانبه، ألقى الجمهور الإسرائيلي بتُهمة جاهزة على صنّاع الفيلم، بعد تَعديلهم على الشخصيّة، وهي "معاداة السامية".

ولم تنته تَقاطعات "والت ديزني" مع مشهد الإبادة وصنّاعه عند هذا الحدّ، فقد أنتجت شبكة "هولو" المملوكة لـ"ديزني"، خلال الإبادة أيضًا، إعلانًا إسرائيليًا مصمّمًا بالذكاء الاصطناعيّ، يروّج للاستيطان في غزّة. وقد لاقى انتقاداتٍ عالميّة لاذعةً جدًّا.

يقول الإعلان: "تعال لزيارة غزّة الجميلة، بشواطئها المذهلة وشوارعها السّاحرة. تستطيع أن تُقيم في أحد فنادقنا ذي الخمسة نجوم، وتتذوّق أروع ما في الشرق الأوسط من أطعمة".

ما الذي يفسّر الأرباح رغم المقاطعة؟

وخلّفت حركة المقاطعة، التي شملت جميع الشركات الأخرى التي تمتلكها "ديزني"؛ مثل "Marvel" و"Pixar" و"Lucasfilm"، تساؤلات حول ما إذا كانت هي السّبب في خسائر أفلام كفيلم "The Marvels"، الذي بلغت خسارته 237 مليون دولار.

فقد انتشرت آراء شعبيّة كثيرة، على موقع "Reddit"، ترى أن جودة الفيلم رديئة. ولعلّ الشيء نفسه ينطبق على فيلم "Wish"، الذي صدر بمناسبة مئوية "ديزني". إذ واجه انتقادات حادّة من أقلام النقاد، وخسر 131 مليون دولار.

من جانب آخر، قد تُجيبنا أرباح ديزني لعام 2024 عن سبب استمرار الشركة بهذه السياسات رغم المقاطَعة والجدل، وعن الدعم الكبير الذي تحظى به "الإمبراطوريّات الاقتصاديّة" من أصحاب المال والتأثير.

فرغم خسارة بعض أفلامها في شباك التذاكر، ارتفعت إيرادات "ديزني" الربعية في عام 2024، إلى 22.57 مليار دولار. وقد يعود ارتفاع الإيرادات أيضًا، لحجم الدعم الذي تحظى به الشركة.

ويعدّ كريس كريستي، أحد أبرز الداعمين لـ"والت ديزني"، وهو الحاكم السابق لنيوجيرسي. يُعرف كريستي بمواقفه المؤيدة لإسرائيل، وقد عبّر عن دعمه القويّ لها في مناسبات عدّة.

ففي تشرين الثاني/ نوفمبر 2023، أيّ في بداية حرب الإبادة على غزة، قام كريستيبزيارةمستوطنة "كفار عزة" المحاذية للقطاع، وأعرب عن تضامنه مع إسرائيل، مشدّدًا على أهمية التحالف الإستراتيجي بين الولايات المتحدة وإسرائيل، وضرورة دعم الأخيرة في مواجهة "التحدّيات الأمنية".

سينما في خِدمة البروباغندا

وبالطبع، فإن نهج الشركة، المُتَصالب مع المصالح السياسية الاقتصادية العالمية، لم يكن متعلقًا بإسرائيل فحسب، فقد سبق وأن استخدمت "ديزني" أفلامها لصالح السياسة والبروباغاندان حيث استغلت، تاريخيًا، تأثيرها الثقافي على فئات واسعة من الجمهور، لتلعب أدوارًا سياسية مباشرة. هكذا فعلت خلال الحرب العالمية الثانية. فمع تعرض الشركة آنذاك لأزمة ماليّة بسبب إخفاق مبيعات فيلمي "Pinocchio" و"Fantasia"، وَجدت "ديزني" في الحرب فُرصة لتقديم خدماتها للحكومة الأمريكية.

ظهر ذلك بوضوح في فيلم "Seven Wise Dwarfs"، حيث استُخدمت شخصيات الأقزام للترويج لسَندات الحرب. (ففي الحربين العالميتين، ابتكرت الولايات المتحدة ما سمّي بسندات الحرب كوسيلة لجمع الأموال من أجل المجهود الحربي. اشترى الناس هذه السندات، التي كانت في الأساس قروضًا للحكومة. وفي المقابل، وَعَدت الأخيرة بسداد هذه المبالغ في وقت لاحق). إذ يظهر الأقزام في الفيلم وهم يقايضون الألماس بسندات تُموّل المجهود الحربيّ الأمريكيّ.

إلى جانب ذلك، ذهبت "والت ديزني" في جولة إلى أمريكا الجنوبية بدعم من وزارة الخارجية الأمريكية لمواجهة النفوذ الألماني في المنطقة خلال الحرب. نتج عن هذه الجولة، إنتاج أفلام مثل "Saludos Amigos" و"The Three Caballeros"، التي جمعت بين الترفيه والدبلوماسية الناعمة لتعزيز صورة الولايات المتحدة، ولدرء نفوذ القوة النازية المتوسّعة.

ليست المرّة الأولى التي يَغضَب فيها العَرب

أثارت "ديزني"، عام 1999، غضبًا عربيًّا واسعًا، بعد أن وصفت القدس بـ"عاصمة إسرائيل"، في أحد معارضها الخاصّة بـ"ديزني لاند" في مدينة "أورلاندو". فوجّهت إليها جامعة الدول العربيّة استنكارها، تجاه ما قالت عنه "انتهاكًا للقرارات الدوليّة التي لا تعترف بالقدس عاصمة لإسرائيل".

ولم يكن رد الفعل العربيّ محدودًا بالتصريحات الرسمية، إذ دعت جهات شعبية وحركات مقاطعة إلى الضغط على "ديزني"، وعُقد اجتماع طارئ للجنة الدائمة للإعلام العربي، متزامنًا مع تهديدات جدية بمقاطعة منتجات الشركة في الأسواق العربية.

تحت وطأة هذا الضغط، اضطرت "ديزني" إلى تعديل محتوى المعرض، فسحبت وصف القدس كعاصمة لإسرائيل. لحظتئذٍ، أظهر هذا النجاح قوة العمل الجماعي المنظَّم، وأكد أن الشركة ليست محصّنة من تأثير الرأي العام.

كانت تلك المرة الأولى التي تدعم فيها "ديزني"، بصورة جليّة، السردية الاسرائيلية. لكنّ المقاطعة والظرف السياسيّ العالميّ، ربّما دفع بها نحو التراجع عن خطوتها. أما اليوم، وبعد نحو ربع قرن من الزمن، ومع مسار التطبيع الذي تتبعه دول عربية عدّة مع إسرائيل، فالعلاقات الدوليّة تتخذ منحى مختلفًا. وحركات المقاطعة تتجّه نحو رفع الوعي عبر وسائل التواصل الاجتماعيّ، في ظلّ عدم وجود قوّة تأثيريّة على العلاقات الرأسماليّة السياسيّة الراسخة.

مُرونة عرقيّة… فهل تَحدث المُرونة السياسيّة؟

"تحوّلت الشركة إلى مرجع ذوق عام مركزيّ وحصريّ، تقريبًا، في مجال ثقافة الطفل. شخصيات ديزني أصبحت قدوة ومثالًا للأطفال في جميع أنحاء العالم"، يقول الناقد والباحث لؤي وتد. ويستشهد بدراسة حول ديزني: "إلى جانب هذا النجاح الهائل، جاء كذلك النقد اللاذع للقيم التي تمثلها الأفلام والتي، بادّعاء أنها قيم عنصرية وشوفينية ومحافظة وتقليدية، تقوم بصقل نموذج جمال حادّ وصارم للفتيات، ممثلًا بأميرات أساطير "ديزني".

فَعَبر توحيد الحِكايات، وترسيخ الأفكار النمطيّة الماديّة عن الشعوب ولون البشرة وغيرها، أصبحت الحكاية، في "ديزني"، أداة لتعزيز السرديّات الغربيّة المُهيمنة. وعليه، لم تَعُد "ديزني" مجرّد مصنع أفلام، بل لاعبًا رئيسًا في صياغة الهويّة الثقافيّة الجمعيّة.
لكن في السنوات الأخيرة، اعتمدت الشركة نهجًا مختلفًا في أفلامها، لتكون أكثر اتساقًا مع متطلبات العصر. فتغيّرت وجوه الأميرات، وتنوّعت أعراقهنّ. رأينا ذلك، على سبيل المثال لا الحصر، في فيلم "Frozen"، حيث بطلته من أصل إفريقيّ. كذلك، حاولت الشركة تجميع شهادات من قِصار القامة، لضمان ظهور عادل للأقزام في فيلم "بياض الثلج".

ولعلّ هذه المرونة "الجندريّة" و"العرقيّة"، لا تحكمها السياسة بالضرورة. إلا أنّ الشركة أبدت مرونةً سياسيّة ما، حين بدّلت اسم العميلة الإسرائيليّة في الفيلم، ذاك إذا كانت هذه المرونة نابعة أصلًا من ضغوط حركات المقاطعة.

وإن كانت الأخيرة لم تَجنِ ثمارًا ملموسة بالفعل، فإنها لا تزال تمثّل نوعًا من أنواع المقاومة للسرديّة الصهيونية التي تتقاطع مَصالحها مع مَصالح الإمبراطوريّات الاقتصاديّة العالميّة. خلال الشهر الحاليّ، يراقب المقاطعون وغير المقاطعين، عرض فيلمي "كابتن أميركا" و"بيضاء الثلج". وربّما سنسمع نقاشات فنيّة، وأخرى سياسيّة تعمّق من جديد ارتباط شركات الترفيه بالسياسة.


"أُنجز هذا النّص ضمن برنامج "الصحافة الثقافية النقديّة" (2023-2024)، الذي تديره مؤسسة الصندوق العربي للثقافة والفنون-آفاق بالشراكة مع الأكاديمية البديلة ممثلةً بشبكة فبراير. وأشرفت على تحريره أسماء عزايزة".

شهد محمد قيس

كاتبة وصحفية عراقية سورية خريجة المعهد العالي للفنون المسرحية في دمشق  

رأيك يهمنا