دور لكل جيل…
لطالما كانت علاقة الإنسان بالزمن معقدة، بل وبالغة التعقيد، فهو بالنسبة إليه "مجهولٌ" قد يدفعه إلى الخوف أو التفكير أو الحزن أو اللامبالاة، وربما قد يشكل مصدر إلهامٍ أو تحدياً يحدث تحولاً في حياته أو حياة الآخرين. الزمن الذي عرفه البشر متراقصاً بين غروبٍ وشروق يختبئ في جوف ساعاتٍ تحيط بنا في كل مكان، فنراه في الكثير من الأشياء والوجوه، نختبره في حضرة المعاني ونشعر به في نظرات من يصغروننا، لتزيد من حيرتنا وتساؤلاتنا حول علاقتنا بأنفسنا وبالأجيال المتعاقبة من حولنا وصواب ما نعتنقه من مبادئ وأفكار.
فقد شهدنا في مراهقتنا، ثم في مطلع العشرينات والثلاثينات من أعمارنا، تجارب متعددة ومحاولات للتجديد أو المحاكاة أو المعالجة أو إعادة القراءة للكثير من الأعمال الفنية والثقافية والأدبية التي تناولت الإنسان وطرحت منذ الأربعينات وحتى مطلع الثمانينات، على وجه الخصوص، وكانت آنذاك فرصةً لأبناء جيلنا الذي ولد ما بين نهاية السبعينات حتى منتصف التسعينات تقريباً للتعرف على الكثير من الأعمال والكنوز الفكرية التي "أبهرتنا" وساهمت في تشكيل وعينا وتوجيه ذوقنا وتنوير عقولنا وتوثيق صلتنا بثقافتنا ومحيطنا، وهو ما لا نجده اليوم بين الشباب رغم سهولة وصوله إلى المواد التي كانت تتطلب الكثير من الوقت والجهد والمال للحصول عليها.
أصبح من الملحوظ حالياً وجود فجوةٍ حقيقية بين الأجيال، أكثر من أي وقتٍ مضى، في ظل غياب لغةٍ مشتركة، عدا عن التباين الكبير في الذوق والاهتمامات ونوعية الأسماء والأساليب والمواضيع التي تجذب أبناء اليوم. فقد شهد جيلنا حالة التطور التدريجي وصولاً إلى ما نعيشه الآن بينما ولد هذا الجيل وسط هذا التقدم والصخب المعرفي (بسلبياته وإيجابياته)، والذي اختصر عليهم الكثير من المراحل التي عشناها وعاشتها البشرية من قبل، فأفقده الشغف والترقب اللذين كانا جزءًا من أيامنا، كما أفقده عامل الانبهار بأي شيء، كونه بدأ من نقطة الذروة في مختلف جوانب الحياة ولم يبذل الجهد ذاته للحصول على ما بات يعتبره من البديهيات، والتي رغم وجودها لم تستطع أن تجعله إنساناً أكثر سعادة، سواءً كان ذلك على صعيدٍ شخصي أو على صعيدٍ عام. وهو ما ساهم في تمرده على من سبقوه لشعوره بوجود هوةٍ تفصله عنهم، إلى جانب ما يشعر به من اختلافٍ في "الإيقاع" والتوجهات بينه وبينهم، عدا عن قناعته بإخفاق الأجيال السابقة في خلق واقعٍ أفضل سيضطر للتعايش معه وتحمل تبعاته، وهو ما دفعه نحو نقد تجاربهم (وإن لم يكن أهلاً لذلك) كونها غير جديرة بأن تكون قدوة له ومثاله الأعلى (من وجهة نظره).
على عكس جيلنا الذي كان ينظر إلى أسلافه بقدرٍ كبير من الاحترام والتقدير والانبهار بما أنجزوه وقدموه على مختلف المستويات، رغم عدم توفر نفس المزايا والإمكانيات لديه، ورغم شعور أبناء جيلنا بأننا لم نأخذ فرصتنا كاملة وبأننا وقعنا ضحيةً للعديد من الأزمات والحروب والظروف الاقتصادية والسياسية والمتغيرات الاجتماعية المتتالية التي عرقلت مسيرتنا وتطورنا الطبيعي بشكلٍ أو بآخر. ولكن، هل يستدعي هذا الحاضر الذي نعيشه وجود تلك "القطيعة غير المعلنة" بيننا؟ وهل يعي الجيل الجديد قضايا مجتمعه وثقافته وهل يدرك ما عاصره أسلافه؟ وهل هو على دراية بالأحداث التي يشهدها العالم حالياً؟
خلال البحث عن بعض هذه الإجابات، سواء من خلال مجال عملي أو مشاهداتي الشخصية أو من خلال محاولات البحث والاطلاع، أعترف بأنني قد وقعت، دون أن أعي، فيما كنت أخشى دائماً الوقوع فيه، كالكثير من أبناء جيلي. وهو افتراض نظريةٍ أو واقعٍ ما لمجرد حدوثه بشكلٍ مغاير عما اعتدنا عليه، فأعطاني ذلك أيضاً الفرصة لاكتشاف أخطائي وتوسيع رؤيتي في رحلة البحث عن إجابة بين الشباب الذي أعترف أنني استفدت من محاورته بشكلٍ ودي، على اختلاف جنسياته وخلفيته الدينية والثقافية والاجتماعية. وتساءلت عن انطباعاته حول الكثير من المواضيع كعلاقته مع الأسرة وعلاقته بالدين، رأيه في الحب والصداقة، شعوره بهويته، نظرته للغرب، مفهومه للنجاح والحياة والحرية، كيف يخطط للمستقبل، اهتمامه بالتكنولوجيا ومواقع التواصل الاجتماعي، متابعته للشأن العام والعالمي، هل يعرف الكثير عن القضية الفلسطينية؟ هل أثرت بعض الخلافات في الأجيال السابقة على نظرته لكل من يختلف عنه؟
فوجدت، بعد الكثير من الإجابات والنماذج، أن المسؤولية أو الخطأ الأكبر يقع على عاتقنا كجيل عاصر تجارب أكثر أهمية وأكثر عمقاً، لكننا دون أن ندري تسببنا (وأتحدث هنا بشكل عام) بنوع من الخيبة والإحباط لدى هذا الجيل الذي كان ينتظر ويتوقع الكثير منا. فنسبة مهمة من الشباب تدرك ذلك الفارق بين الأجيال وتدرك طبيعة العصر الذي تعيشه وتستفيد من تطوره، لكنها أيضاً تعتبر مثلنا تماماً أنها لم تحظ بالفرصة التي تستحقها، كما لم تحظ في كثير من الأحيان بالاحتضان والرعاية التي كان من المفترض تلقيها في الوقت الذي كانت فيه الأسر تسعى لتأمين متطلباتهم المادية وتوفير حياة أفضل، وإن كان ذلك على حساب المتطلبات المعنوية المتمثلة في وجودهم معاً كعائلة. كما أن عدم وجود إجابات مقنعة بالنسبة له عن الكثير من الأسئلة جعله يختار البحث بنفسه عن الكثير من الحقائق حول "الآخر" الذي يلتقون به ويحمل صورةً مختلفة عن تلك التي "رُسِمت لهم" وتشمل العديد من الفئات والقضايا الاجتماعية وعلى رأسها القضية الفلسطينية التي تلقى زخماً وعودةً بين الجيل الصاعد، وهو ما شجعهم على التفكير بأسلوب مغاير وسرعةٍ أكبر والتعلم من أخطائهم وأخطاء من سبقوهم، مما يثبت أن لديهم الكثير من الإيجابيات التي تحتاج إلى من يفهمها ويتفهم طريقتهم في التعبير عنها، فيأخذ بيدهم ويستوعبها وسط كل هذه التقلبات لتوظيفها بالشكل الصحيح وإبداء التقبل لها دون التعالي عليها. حينها فقط سيتم ردم هذه الهوة وستستفيد كل الأجيال من بعضها، لأن عاملي الثقة والشعور بالأمان هما الجسر الذي سنعبر من خلاله جميع مخاوفنا ونعيد به بناء مجتمعاتنا بشكلٍ صحي وصحيح ومتوازن، يوجد فيه مكان لكل جيل وتوظف فيه الأدوار تبعاً لقدرة كلٍ منا على العطاء واحترام مساحة الغير فتصبح كل مرحلة عمرية هي "الأجمل" لأصحابها، بعيداً عن المسميات والتصنيفات.