بَينَ نَارَيّ.. البَحث عَن الحَقيقَة والحَطَب عَمِلَت الصَحافيّات الغَزّيّات!
العَمَل الصّحافي وَقت الحروب ليسَ سهلًا، فالصّحافي يتحول إلى جنديّ ينقل الحَدَث بالصوت والصورة مِن أرض المعركة، فكيف لو كانت الحربُ داخل قطاع غزة، ومَن يغطّيها -بجانب الصحافيين الرّجال- صحافيات ينقلن الحقيقَة بعدساتهن وكَلماتهن بإنسانية ومهنيّة عالية؟
في الحُروب، تظَهر الصحافيات الغزيّات وهن يرتدين الدُروع والخُوَذ، يَعملن داخل الخِيام المخصصة داخل المستشفيات والمراكز الصحيّة لمواصلة عَمَلهن الصحافي. لكنّ هذه الحرب كانت مختلِفة وقاسية، حيث لم يقتصر الأمر على القَصف العشوائي والقتل العَمد للصحافيين والصحافيات – بلغ عدد شهدائهم نحو 207 شهداء وشهيدات – بل امتد إلى سياسة التّجويع والحرمان مِن أبسط مقوّمات الحياة. وهكذا، وَجَدت الصحافية الغزيّة نفسها بين نارين: البَحث عَن الحَقيقة وتوثيقها، والبَحَث عن الطّعام والحَطَب لِطَهيِه.
الصّحافيات بَين النّزوح والعَمل تحت الخَطَر
على مَدار 472 يومًا مِن الحَرب، واجهت الصحافيّات تحدّيات هائلة، ولا تزال مستمرة حتى بعد وَقف إطلاق النار.
في البداية، كانت الصحافية مجرّد مواطِنة نزَحَت مع أُسرتها إلى المَناطق التي يُفترض أنّها "آمِنة"، لتَجِد نَفسها في خيمة مهترئة لا تَصلح للعيش، لكنّها مَع ذلك لم تتخلَّ عن مسؤوليّاتها المهنيّة.
كانت تَخْرج إلى الميدان تَحت القَصف والخَطَر، مُقابِل أَجرٍ زَهيد بالكاد يكفي لشراء القليل من الأرز، أو المَعكَرونة، أو حتى الحشائش البرّية مثل "الخبيزة"، التي أصبحت وجبة رئيسة للنازحين. طوال تلك الفَترة، لم ترَ الصّحافيات سوى مَشاهد الرُكام والدّمار والدّماء، فكانت قِصصهن هي الأَصدق، لأنهنّ كَتَبنَها وصوّرنها بعيون الأمهات اللواتي يَعِشن الألم ذاته.
في المناطق الجنوبيّة، كانت الصحافيّات محظوظات قليلًا بوجود الإنترنت، ولو بشَكل متقطّع، لكن في الشمال كانت الظروف أكثر قَسوة.
هل تَعلم، عزيزي القارئ، أن بَعض الصحافيّات كنّ يَصعدن إلى أَسطح المنازل ليلًا، خلال الاجتياح البريّ، لالتقاط إشارة إنترنت ضعيفة، مستغلّات لحظات غياب طائرات الاستطلاع "الزنّانة" لدقائق مَعدودة فقط، لإرسال موادهن الصحافيّة؟ كادت هذه المُخاطرة تكلّفهن حياتهن أكثر من مرّة.
البَحث عَن المَعلومَة والطّعام
وما بين الشّمال والجَنوب، معاناة الأمّهات الصّحافيات واحدة، فتجدهُن قبل الخُروج للعمل يَجمعن الحَطب، وعند العودة يتولّين إشعاله لطهي الطعام، لكن هذه المرّة بوصفات مبتكرة؛ فَعلُب اللحمة والفاصوليا والبازيلاء والفول التي تأتيهن عبر طرود إغاثية، أصبحن يصنعن منها وصفات جديدة اضطرارية.
في الشتاء، كانت الصّحافيات يخرجن إلى الأراضي المُحيطة بمخيّمات النزوح، بحثًا عن الأعشاب البريّة لسدّ رَمَق عائلاتهن. لم يكنّ بمنأى عن الجُوع، لكنهن وَقَفن في الصفوف الأولى لتوثيق معاناة الجائعين رغم أنّهن يعشن الظروف نفسها. وكثيرًا ما كانت الصحافية تعود إلى خيمتها أو منزلها المؤقّت لتجد أطفالها جوعى، فتبحث عن أيّ شيء لإطعامهم قبل أن تعود إلى عملها، منهكة من الجوع وهَول ما شاهدته عيناها من إبادة جماعيّة.
حتى خلال تغطياتهن الميدانيّة، كانت بعض الصحافيّات يتنقّلن وأياديهن "مُشَحْبرة" من إشعال الحطب، وبينما يُمسكن بالميكروفون، يتبادلن السؤال: "كَم صار سِعر الحطب اليوم؟"، في ظلّ نُدرة غاز الطّهي، خاصة في المناطق الجنوبية.
وَضْع الصّحافيات النّفسي والصّحي
لم تكن الصحافيات بمَعزل عن معاناة النّساء النازحات أو المُحاصَرات، بل كنّ يَعِشن ظروفًا مضاعفة، في المستشفيات التي تحوّلت إلى مقرّات صحافية، عانين من الأمراض المُعدِية والتهابات الجِلد بسبب المياه الملوّثة.
لم يكن من السّهل العثور على أبسط مستلزمات العناية الشخصيّة، من مزيلات العرق إلى الكريمات المرطبة، ما تسبّب لهن في مشكلات جلدّية دون إمكانية علاجها. أما الفُوَط الصحيّة، فقد انقطعن عنها فترات طويلة، إما لانعدامها في الأسواق، أو لارتفاع أسعارها، مما زاد من معاناتهن الجسديّة والنفسيّة.
أما نفسيًّا، فالوَضع كان أشدّ قَسوة، لم تَعُد الأحلام سوى كوابيس متكرّرة: "حلمت أنني استشهدت"، "رأيت رجلي مَقطوعة"، "كنتُ أهرب من الدبابات". أصبحت هذه العبارات جزءًا من الأحاديث اليوميّة بين الصحافيات، تَعكس ما يعِشْنَه من رُعب دائم.
كثيرًا ما كانت المُراسلة الحربيّة تقف أمام الكاميرا لتغطي حدثًا، ثم تنهار فجأة، راكضة خَلف رِجال الإِسعاف، معتَقِدة أن الضحيّة هي ابنتُها، لتعتذر بعدها قائلة: "ظننتها ابنتي، تُشبِهها كثيرًا!". وأحيانًا، لا تُدرك الصّحافية أن الشخص الذي توثّق استشهاده هو أحد أقاربها، كما حَدَث مع كاتبة هذا المقال، التي نَشَرت خَبَر ارتقاء أربعة شهداء في قصف حيّ الشيخ رضوان، لتكتشف لاحقًا أن أحدهم كان شقيقها.
حتى أثناء النَوم، لَم تكن الرّاحة ممكنة. كنّ يتّخذن أوضاعًا غَريبة للنّوم، يُقَرفِصن أَرجُلهن، ويُغطّين رؤوسهن بالأَغطية والوسائد، خشية أن تَصِلَهُن شظايا الصواريخ. ومع ذلك، لم يَنجين من الهَلاوس الليلية، حيث يستيقِظن مَرعوبات، ظانّات أنهن يُقصفن في أحلامِهِن.
الحَديث إلى طَبيب نَفسي"رفاهيّة"
عندما يُسألن عَن وضعهن النّفسي، تأتي الإجابة واحدة: "زِفت!". حَجم الدّمار الذي شهدته أعيُنُهن، والاستهدافات المباشرة التي طالَت زُمَلاءَهن، والدّماء التي غَطّت الطُّرُقات، كُلّها جَعَلت الحياة لا تُشبه حياتهن السابقة.
حاول بعضهن اللجوء إلى طبيب نفسي عبر مؤسّسات صحافيّة، لكن بمجرد الحديث لدقائق، شعرت كلّ واحدة منهن أن هذا الأمر "رفاهيّة" مقارنة بما يَجري على الأرض، فكيف تعالجُ أَلَمَها بينما المَوت يحيط بها من كلّ جانب؟
ورغم كلّ ما مَرَرن به، لم تَستَلِم الصّحافيّات في غزة، بل واصَلن نَقل الحَدَث حتى عُدْن إلى بيوتهن المهدّمة برفقة النّازحين إلى مدينة غزة والشمال، ثبَّتن أوتاد الخيام ثم أَخَذن في ترتيب أَوضاعهن، ثم خَرَجن إلى الشوارع لتوثيق عودة النّازحين وتفاصيلهم اليومية بعد 15 شهرًا من النّزوح القَسري.
الصورة: للزميلة الصحفايّة-المصوّرة دعاء الباز.