ذاكِرةُ المِذياع: "إسرائيل بالعربيّة"

إن سُرعة تناقل المَعلومات وتعدّد مصادرها في عصرنا هذا جَعَلت مِن الوسائل التقليديّة التي اعتاد الناس عليها من التّلفاز إلى المذياع إلى الجريدة المطبوعة وسائل أقلَّ جذبًا للباحثِ عن خبرٍ سريعٍ أو معلومةٍ عابرةٍ. وضَعَت ضغطًا إضافيًا على فُرص وسائل الإعلام التقليدية للتميّز. فالوصول لأكثر الأماكن حساسيةً ونقل الأخبار منها، أو البحث عن الأخبار الحصريّة، التي قد لا تَحصل عليها أيّ وسيلةٍ أُخرى، أو التميّز في القُدرة على استضافة محلّلين من كافة المجالات ذوي كفاءةٍ عالية، أو حتى القدرة على تمويل تحقيقاتٍ صحافيةٍ ذا طابعٍ درامي يتحدث عن موضوعٍ يهمّ الناس والعامة، جميعها وسائل جذب للمشاهد.

في منتصف التسعينّات، كان العالم مختلفًا تمامًا. الأخبار لم تكن متدفّقة كما هي اليوم، بل كانت تأتي بحذر وبطء عبر المذياع أو التلفاز الرسمي. في بيتنا الصغير في رام الله، كان المذياع جزءًا لا يتجزّأ من صباحاتنا. كانت إذاعة إسرائيل باللغة العربية محطة أساسية، لا لحبّنا لها، بل لأنها تقريبًا الإذاعة الوحيدة التي كان بثّها قويًا، دون تقطيع، ليس فقط لوالدي بل لكثير من الفلسطينيين، للتعرف على ما يجري من أحداث، وربما أكثر من ذلك، لفهم خطاب الاحتلال الذي كان يُحيط بنا.

وعند السابعة والنصف، كنتُ أَسمع موسيقى متوتّرة تعلن عن اقتراب نشرة الأخبار، يبدأ المُذيع بصوته الواثق وبلغته العربية التي بدت لي وقتها أقرب إلى اللهجة المصرية بسَرد الأخبار! كطفل، كنت أستغرب كيف يمكن لراديو إسرائيلي أن "يتحدث العربية"، بينما كان عقلي يحاول استيعاب التناقُض بين كلمات مثل "نفذ جيش الدفاع الإسرائيلي" وبين فطور فلسطيني تقليدي يتوسطه الزيت والزّعتر.

سرعان ما اندثرت هذه العادة بعد شراء والدي لتلفازٍ جديدٍ وصحنٍ لاقطٍ أصبحنا من خلاله نتابع الأخبار العربية والمسلسلات الأمريكية، والأغاني المصرية. وكم كنّا سعيدين بالتنقّل بين هذا الكم من القنوات. وبقي المذياع على الرفِّ الذي يعلو طاولة الإفطار في مطبخنا الصغير، لا استعمال له، سوى أنه فردٌ من أفراد العائلة.

بقي والدي، رجل الأعمال، الذي لا يهمّه في السياسة وتحليلها شيء، محافظًا على عادته استماعَ الأخبار، لكنّنا انتقلنا من فقرة السابعة صباحًا لفقرة الأخبار مساءً. وتراه تارةً مستغربًا من الأخبار، وتارةً أخرى يفقد أعصابه من رداءه أداءِ مذيعٍ أو مذيعةٍ ما، وتارةً يشردُ في ذهنه. وأصبح الموضوع إدمانًا لديه إدمانًا عند بدء الانتفاضة الثانية، فأصبحنا في البيت مسجونين بسبب الاجتياحات ومنع التجوّل، لكنّنا أيضًا مسجونين بين القنوات الإخبارية التي تستمر في التغطية. ولعّل أبي أصبح محللًا سياسيًا، لا لحبّه للسياسة، بل لكثرة مشاهدته الأخبار. ومن الجدير بالذكر أن كلّ وسيلةٍ إعلاميةٍ لديها خط تحريرٍ يميّزها، وأجندةٍ تطبّقها تخضع لرغبات مؤسسي القناة، وأجنداتهم، وتمويلهم وغيرها من العوامل. لكن هذا أيضًا لم يكن يهمّ أبي، فكما الأغلب الفلسطيني، هو يبحث عن صورة الحدث الحقيقيّة، وبعضٍ من صور الانتصارات المؤقتة التي تعطينا بعضًا من الأمل للاستمرار في العيش في ظل ظروفٍ كانت صعبة.

أخبارُ حرب غزة

وبعد هدوء الضفة الغربية وقطاع غزة نسبيًا، والانقسام الفلسطيني، وحصار القطاع، ودُخول الهواتف الذكيّة في معادلات حياتنا، لم تعد مشاهدة الأخبارِ عادةً في البيت، فوالدي، يعودُ ليجدنا نحضر فيلمًا أو مسلسلًا، أو برنامجًا غنائيًا، فيشاركنا سهرتنا المسائية.

وحدثت حرب الإبادة على غزة، التي وبإعجازٍ أعادت والدي لشبابه، وأصبح متمسمرًا أمام التلفاز يشاهد الأخبار على مدار الساعة. حتّى ونحن نتناول غداء الجمعة، مع أحفاده، يصدح صوتُ التلفاز عاليًا بالأخبار، فأقول متذمرًا: "ألا تأخذ استراحة من الأخبار؟ لن تضيّع أي خبرٍ عاجل" فلو ضيّعته، ستجده على صفحة الفيسبوك الخاصة بك.

ولكنّني كنتُ أدرك أن رجل الأعمال هذا، يعيد ذكريات المائدة والمذياع والأخبار، ولكن هذه المرّة، بصوتٍ عربيٍ، لا يقولُ كلمةَ إسرائيل بالشكل الإيجابي الذي اعتدنا عليه. فكنتُ في كثيرٍ من الأحيان أُباغته عند انتهائه من الغداء، لخفض الصوت، أو حتى تغييرِ القناة، ليجن جنونه.

وذات يومٍ، لم يعد والدي قادرًا على مشاهدة قناته الإخبارية المُفضّلة. كنّا قد وضعنا له في البيت تلفزيونًا تفاعليًا يعمل باستعمال شبكات الإنترنت فائقة السرعة، وأصبح التلفاز ذكيًا، تستطيع الدخول منه على "نيتفليكس" أو "يوتيوب" أو تستطيع حتى عرض صور هاتفك الخاصة عليه. ولم يدرك والدي أن هذه التكنولوجيا التي كنّا قد أحضرناها لهُ ستكون نفسها السبب، في عدم قدرته على ممارسة عادته بمشاهدة الأخبار بصوت المذيع هذا أو في الوقت كذا، أو سماع المحلل فلان.

وفي لحظةٍ كدت أشعر أنها مصيرية، قال لي: "هذا التلفزيون، في عليه قناة إسرائيل؟"؛ صمتُّ قليلًا وقلت، لا أعرف، فلا أُتابعها، عادةً ما أفحصُ مجموعاتي الإخبارية. تنهّد وقال: "حسنًا، يبدو أنني سأتابع القناة الإسرائيلية للاستماع لبعضٍ من الأخبار". وكأن ذكرياته عادت، ولم يرق له أن قناة إسرائيل تغيّر اسمها ولم يتحمّل سماعها.

وللأمانة في نقل المعلومة، فإن والدي توقّف عن مشاهدة الأخبار على التلفاز منذ ذلك الوقت، فلم ترُق له فكرة الدخول لـ "يوتيوب" لمشاهدة البث الحي لقناةٍ ما، ولم يستصغ الرواية الاسرائيلية.

بقي والدي دون أخبار، وبقت قناة إسرائيل غير مستصاغة لمسمعه، وبقينا نحنُ بين "حانا ومانا" نحاول مساعدته للعودة لعادته في مشاهدة الأخبار، حتى ونحن نتناول الغداء!

ويبقى السؤال قائمًا: "من يُخبِرنا الحقيقة؟"....


(استخدام الصورة بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال ملاحظات ل [email protected]).

أحمد ياسين

ناشط شبابي من مدينة رام الله، حاصل على شهادة الماجستير في تنمية المجتمعات الدولية، بتركيزٍ على تأثير الحركات الاستعمارية على المجتمعات وطرق تنميتها. يعتبر أحمد أحد الممثلين عن الشباب الفلسطيني في المحافل المحلية والدولية، وقد تحدّث عن فلسطين والقضية في مجلس الأمن، ومقر الاتحاد الأوروبي، وغيرها من المنصات الدولية والمحلية. يترأس أحمد مجلس إدارة مؤسسة الرؤيا الفلسطينية في القدس، وينشط مع مؤسسات الأمم المتحدة للمشاركة في تعزيز دور المرأة العربية والفلسطينية وتمكين مشاركتها.

رأيك يهمنا