عزيزي ناصر! 

هو إسمٌ جديد أُطلِقهُ عليكَ بعد أن قطعَ الحظُ بيننا كل إمكانيات التواصل والحديث. 

إسمٌ مشتقٌ من مدينةٍ أحببتَهَا حتى الثمالة. 

مدينة يعودُ تاريخها إلى العهد الكنعاني القديم «آبل» عينُ الماء، وفيما بعد عين العذراء.

لا عجب فسرديةُ الماء أسطورةٌ في التاريخِ والأديان وفي أفكارِ الشعوبِ والأقوام.

وعلى عيونِ المياه والبحار والأنهار.. نشأَت المدنُ والحضارات، كما ونشَبَت العديد من الصراعات.

أعرفُ أنكَ لن تتجاوب معي في هذه الخاطرة ولا غيرها.

أنتَ اليوم حبيب غائب.

ضاعَ اسمُكَ في بحيرة ماء.

كبخارِ ماءٍ صَعِدَت روحُكَ إلى السماء.. 

كدَورَةِ الماءِ بين سطح اليابسة والهواء، تلاشَيتَ في الفضاء.

كمخزونِ الماء في باطنِ الأرض، إستحالَ جسدُكَ الجميل إلى تراب.

وقد يبقى المكان المنخفض تحت الأرض أكثر البقاع ماء.

لذا قلتُ، أكتبُ عنكَ "بينَ ماءٍ وماء"، عساني أرتوي من غَدَقِ الكتابة.. 

وأستحضركَ نجمًا يتلألأُ على وجه الماء، بعد أن تلاشَت قصةُ حُبِنا.. 

فالماءُ تطهيرٌ طاقةٌ وشفاء. 

والماءُ حياة.. والحياةُ تكمنُ في قطرات.

والكتابةُ على الماءِ لا تؤذي أحداً، لأنها سريعة الزوالِ وعديمة الأثر! 

كما أنها بلا لون وطعم، لكن أحيانًا لها رائحة!

وفي الغالبِ نعتادُ على الرائحة.

ناهيكَ عن العلاقة بينَ الروائح والذاكرة.

والكتابةُ على الماء هي ضربٌ من الخيال.. وسلوك لا يُقدِمُ عليهِ إلا من يتعَمَدُّ الإنفراد بنفسِه على مجرى مُتَدَفّق، هروبًا من واقعِه، فيَنكَبُّ على سطحِ الماء، يكتبُ ما يَجيشُ بخاطرِه.. وهوَ على قناعةٍ تامة، بأَن لا أحد بمقدورِه قراءة ما يسطره، لأنَّ الماء الجارف حتمًا سيزيلُ ما كُتِب.

وليسَ بالضرورة أن يوافق الكلّ على مضمون هذه الكتابة! 

فالكتابة إبحارٌ خارج قواعد الأجناس والأساليب المألوفة! 

والكتابة التي يوافق عليها الجميع هي كتابة مسطحة، وقد يطفو الماءُ الضحل على سطحِ الحبر! 

كذا التجارب، تكتبُ ذاتَها بأقلام من اغتسلوا ببرودة مائِها، حتى يلتمسوا بعضَ الدفءِ في الكلمات.. 

كما كنتُ ألتمسُ الدفءَ في حناياك.. وربما يقاوم الماءُ في مسارهِ فيجدُ له منفذًا.

ناصر.. 

الماضي يبعثُ ذبذبات "بين ماءٍ وماء".

وقصةُ الحبِ التي كانت، لمّا تَزَل تصيبني بالبلَل.. ولا يصابُ بالبَلَلِ من يبقى بعيداً عن النبع.  

ليس الخطر في أن تكون الباخرة في الماء، المهم ألا تترك الماء يخترقها فتغرق.

انا اليوم امرأة من حنكة وتجارب.. علمتني الحياة أن أسقي بساتين الزهرِ ولا أُبالي وخز الشوكِ. 

فالحقيقة في الحياةِ تَقضي دومًا بعدمِ وجود حقيقة واحدة، هناكَ حقائق عِدّة تتحدّى بعضها بعضًا، تتداخلُ في ذواتِها، تنام وتصحو، تتجاهل وتجاهر.. 

وقد تنزلقُ كالماءِ من بين يديّ الصغيرتين، وربما توقعني في قعرِ بئرٍعميقة.

لكنني أملكُ نورًا ووردًا وماءً ولا مكان عندي لليأس والضجر.

أشعرُ أحيانًا أنني خفيفة كالسحاب، ثقيلة كالغيث، ساخنة كالبخار، نَديّة كالثلجِ.

لن أكتب وعودًا على صفحات الماء.. لأنّ الموت هو الحقيقة الوحيدة في الحياة.

والإحسان هو أن تَصون وجه السائل من ماءِ المذلّة.

ناصر.. 

كيفَ غِبتَ؟!

كارثةٌ كانَ غيابك.

"أتذوّقُ حروفَ إسمكَ" الجديد، للحفاظ على عطشِ الروح. 

"والقَلْبُ مَهجُورٌ كَبئرٍ

جَفَّ فِيهَا المَاءُ"..!!

وسأبقى أحبك.. إن كانَ في الماءِ فلا أخشى الغرق، وإن كانَ في اليابسة فلا أهابُ الهواجس والسيوف. 

فالموقف العصيب لا يختلف كثيراً عن الماءِ الساخن حتى تتعوّد عليهِ مرّة تلو مرّة.. تشربهُ ولو مالحًا كي لا تموت عطشًا، وتتغنّى مع فيروز "إنمّا الناس سطورٌ كُتِبَت لكن بماء" حتى تصل إلى واحةٍ خضراء.

ناصر.. الحيُّ فيَّ.. الذي لا يموت..

"لأنّي أحبُكَ

يَجرحُني الماء".

رنا أبو حنا

كاتبة وناشطة في عدة جمعيات ثقافية وإجتماعية. موجهة مجموعات وفعاليات في الكتابة الإبداعية وإثراءات جماليّة في اللغة العربيّة. في حوزتها العديد من الإصدارات الأدبيّة  الهامّة في أدب الرثاء والمواضيع الإجتماعيّة وقصص الأطفال


نجاة بكر
جميل جدا ما قرأت ورائع ما كتبت انه يعلق في القلب والذاكره ولا يمحوه الماء عميق وثرية لغتك احببت
الأربعاء 27 أيلول 2023
كميل شقور
قرأت حرفا جسورا امينا، قرأت حرفا شامخا فخورا، يبني كلمات بالخبرة كبيرة، بالاحاسيس والمشاعر عظيمة، قرأت اسطر تنقل لنا من الحياة صورا بالزيت مرسومة المداد قاعدتها ، قرأت قرأت قرأت قصة حب جُزعت قُطعت بأولها ليتها كانت طويلة
الأربعاء 21 شباط 2024
شاركونا رأيكن.م