الحكم المحليّ العربيّ تحت سلطة الفوقيّة اليهوديّة: التوازن بين الخدماتيّ والسياسيّ

تُعتبر السلطات المحليّة العربيّة عصبًا مركزيًا في العلاقة السياسيّة ما بين المواطن العربي الفلسطيني والدولة. بالإضافة إلى كونها ركيزة أساسية لممارسة العملية السياسية على الصعيد المحلي للمجتمع، تقع عليها مسؤوليات وأعباء إدارية وخدمية رئيسية تطال مختلف مجالات الحياة المجتمعية. لذا، فإن فعاليّة هذه المؤسسات ونجاعتها في أداء دورها والقيام بمهماتها المختلفة تُقاس ليس فقط من خلال قدراتها التنظيمية والتفعيلية، إنما ايضًا بدورها السياسيّ مقابل الحكم المركزيّ، والذي وعلى مدار السنين عمل على اضعاف السلطات المحليّة العربية كجزء من سياسة ممنهجة لتعزيز ذهنية الاحتلال الهادفة إلى ترسيخ وتعميق الفجوات بين المجتمعين اليهودي والفلسطيني ذلك لضمان الفوقيّة اليهوديّة والمس بأي إمكانية للاستقلالية لأي هيئة تمثيلية فلسطينية وإبقائها رهينة قرارات يحيكها ويصيغها المُستعمر لبسط سيطرته.  

ولعلّ المؤشر الأقوى على ذلك نجدهُ بقرار وزير المالية الحالي، بتسلئيل سموتريتش، في مصادرة الهبات المُخصصة للسلطات المحلية العربية ولاحقًا ربطها بسلّم "الولاء" (الإشارة الضوئيّة)، ولاءٌ يبديه الرؤساء تجاه المُستعمر لنيل فتات من حقوقه. 

ولنضع جانبًا، دور المؤسسة الإسرائيلية المتواصل، والذي لم يبدأ بسموتريتش ولن يقف عنده، فالحديث عن سياسة تبنتها معظم حكومات إسرائيل والمختلف الوحيد في هذه المعادلة الثابتة كان شفافيّة التصريحات والمجاهرة بسياسات القمع والتمييز والإذلال في الحكومة الحاليّة، ولنركز على الوضع الحالي لمجتمعنا الفلسطيني ومكانة السلطات العربية فيه. 

لا شك أنّ العمل على المستوى البلدي في العشرين عامًا الأخيرة أصبح حاملًا لأوجه كثيرة من التحديات، فقد ألقت التطورات السياسية، الاجتماعية والاقتصادية بظلالها على العمل البلدي المحلي، إليها أضيفت تعقيدات وتحديات كثيرة وجديدة أمام اللاعبين على الساحة البلدية المحلية في كل مدينه وقرية.

مع تعاظم ثقافة الاستهلاك والفردية، بدأت دوائر الانتماء تتشكل من جديد، وأصبح المبنى التقليدي الذي حكم المشاهد الانتخابية على إمتداد المدن والقرى العربية يتحطّم لصالح دوائر انتماء أصغر وأصغر تحكمها ثقافة الفردانية، والمصالح الضيقة.

في ظل "ثقافة الحمائلية" بمعناها التقليدي، أصبح التحدي الأكبر في السنوات الأخيرة هو كيفية التعامل مع "شظايا" هذه الحمائل والعائلات، وأيضًا التوافقية مع مشهد تحوّل فيه المواطن، ابن المدينة أو القرية، إلى فردٍ يرى بالحكم المحليّ وسيلة شخصيّة وليس غاية لبناء مجتمعه، وتحوّل المشهد إلى أكثر تعقيدًا لأن الإفرازات الجديدة أصبحت تلزم القوى المتنافسة في "المعارك" الانتخابية بأن تتعامل مع دوائر الانتماء الأكثر ضيقًا وأن تأخذ بالحسبان مصالح هذه الدوائر، وبطبيعة الحال أصبحت المصالح أكثر عددًا. 

ما عزز كل هذا أكثر، التراجع العام وتراخي الخطاب الوطنيّ وتسييس القضايا، حيث أصبحت المهمة المناطة بالأحزاب التي تأخذ دورًا في هذا المضمار شبه مستحيلة وأصبح العمل على المستوى البلدي ضربًا من ضروب العمل المضني المحفوف بالمخاطر لديها، كما أدّى التراجع العام الذي أصاب "النَّفَس" السياسي، والذي ترجع أسبابه لظروف كثيرة، منها الموضوعية ومنها الذاتية، إلى تحويل محاولات تسييس الخطاب البلدي لما يشبه "حوار الطرشان". 

كذلك، أدّى تخلي بعض الأحزاب الفاعلة عن دورها في هذا الحقل، آخذة بعين الاعتبار حسابات الربح والخسارة في المعارك الانتخابية القطرية أو حتى أحيانا تورط بعضها بالإمعان في خطاب المصالح، الحمائلية، أو الانتقام من منافسيها القطريين، إلى تعميق الأزمة، وتراجع السياسي لصالح اليومي، الاستهلاكي، والفرداني. 

ولا بد من الإشارة إلى الظواهر الاجتماعية والشوائب على اختلافها كانتشار الجريمة، العنف ودخول بعض هذه "المجموعات " على السياقات البلدية لدرجة أن بعضها "ترعرع" في مستنقع فساد بعض الإدارات في السلطات المحلية وأصبح له وزن في اتخاذ بعض القرارات أو حتى السياسات المحلية.

كل هذه المستجدات وغيرها الكثير التي لم آتي على ذكرها أعلاه، تحتاج اليوم إلى الوقوف عندها والتفكير مليًا بغياب الدور السياسيّ المفترض أنّ يكون للسلطات المحليّة، فالمطلب الخدماتي- فتح شارع، على سبيل المثال لا الحصر، هو ليس خدماتيّ بامتياز، أنما هو رهينة سياسات أقرتها الحكومة، فقد يكون هذا الشارع هو التفافيّ يمس بسكان بلدة يهودية وتطوريها أو يكون شارع يمس بمناطق خضراء حددتها إسرائيل لمنع تطور البلدات العربية، وحينها مهمة المطالبة بفتح هذا الشارع ستكون أقرب إلى المستحيل إذا لم يرافقها عمل سياسيّ نضاليّ تشاركي من قبل جميع السكان. 

يتوجب علينا اليوم، العمل وبقوة نحو إعادة صياغة خطاب السلطات المحلية العربية مقابل الحكم المركزيّ، وإن كانت الأزمة الأخيرة التي افتعلها سموتريتش قد مهدت الطريق إلى ذلك. خطاب ركيزته ليس فقط المطالب المدنية والخدماتية وفتات الهبات والموازنات إنما يحمل مطالب جوهرية بتغيير سياسات منها على سبيل المثالّ؛ تغيير في قانون كامينتس وابعاد شبح الهدم عن مئات البيوت والمصالح التجارية المُهددة بالهدم والتي يرى اصحابها أنّ البلديات متهمة بالتقصير دون النظر إلى أبعد من ذلك. تغيير في سياسات التوظيف والملاكات ومنح الشبان أطر تشغيلية وابعادهم عن البطالة. تغيير في سياسات التعامل مع ملف العنف والجريمة والمثابرة في تجنيد الناس لتوجيه أصبع الاتهام للمتهم الحقيقي المسؤول عن انعدام الأمن والأمان، وترجمة الغضب إلى عملية نضاليّة طويلة النفس حتى تأخذ الحكومات مسؤولياتها. وما إلى ذلك من سياسات رافقتنا منذ الأزل ولم تتغير أو تتوقف عند حكومة معينة. 

 ونحن نقترب نحو الانتخابات المحلية علينا جميعا أنّ نرصد مشاريعنا البلدية، أن نتوقف عند نجاحاتها، وبالتأكيد على بعض إخفاقاتها. علينا أن نرصد الأحوال في قرانا ومدننا وأن نعرف كم استطعنا فعلا أن نوازن العمل البلدي بمنظوره السياسيّ والخدماتيّ، علينا العمل على إعادة "ترميم" الجدار الواقي لمجتمعنا، فهذا الجدار ترسخ بمطالب سياسيّة وعزز الانتماء والالتفاف الجماهيريّ نحو هذه المطالب، ومؤخرًا بات يطاله التآكل مما أضعف الحصانة المجتمعيّة. 

علينا العمل مجددًا على إعادة صياغة "خارطة الطريق"، تلك الخارطة التي عمل رؤساء "يوم الأرض الخالد" وسابقيهم على رسمها وبفضلها نجحت بلدتنا بسطر مواقف أدت إلى وقف مصادرة اراضِ شاسعة وحوّلت قرار إضراب إلى قرار مُلزم لكل فردٍ، في الوقت الذي نناقش اليوم "جدوى الإضراب" ووصفه بقرار اعتباطي دون التفكير حتى انّ هذا القرار ليس وليد أفكار "المتابعة"، انما ردٌ، وإن كان "أضعف الإيمان"، على ممارسات سلطوية لا ترفضها المتابعة لمجرد الرغبة في رفضها، إنما لإسقاطها على كل فردٍ فينا.

المحامي سامح عراقي

محام وقائم بأعمال رئيس بلدية الطيرة

شاركونا رأيكن.م