بين الحربِ وأن تكوني امرأة في غزّة
عندما تحدث الحروب، تظل النساء الضحايا الأكثر صمودًا وتحمّلًا في صمت، لا يمثّلن أرقامًا إحصائية فقط، بل يحملن حكايا مؤلمة مليئة بالألم والخراب. في ظل هذا الجحيم المدمر، تتألم النساء بصمت عميق، تتجلى فيه لغة الجسد والروح، لكنها تبقى مخفية خلف ستار الإحصائيات والتقارير الرسمية.
إن معاناة النساء في غزة لا تصدق، تتعدى حدود الكلمات والصور، حيث أصبحت أجسادهنّ وأرواحهن ساحة معركة لا ترحم، تتعرض للاختبار المستمر بين غارة وأخرى بين نزوح ونزوح في البحث المستمر عن نجاة من قهر ومرض وجوع. فالحرب، بكل ما تحمله من دمار وخراب، لا تستثني المرأة، بل تضاعف معاناتها وتضعف قدرتها على التحمّل. فبحسب تقرير الأمم المتحدة الأخير عن الانتهاكات والتجاوزات لحقوق الانسان التي تمارسها حكومة اسرائيل في غزة والضفة الغربية فإنّ نساء وفتيات فلسطينيات تعرضن للإعدام في غزة، غالبًا مع أفراد أسرهنّ، بما في ذلك أطفالهنّ، إضافة الى الاعتقال التعسفي لمئات النساء والفتيات الفلسطينيات، بما في ذلك المدافعات عن حقوق الإنسان والصحفيات والعاملات في المجال الإنساني، في غزة والضفة الغربية منذ 7 أكتوبر. وبحسب ما ورد فقد تعرضت العديد منهنّ لمعاملة لا إنسانية ومهينة، وحُرمن من فوط الدورة الشهرية، والغذاء والدواء، وتعرضن للضرب المبرح والاعتداءات اللفظية، وانتهاكات جنسية متنوعة.
هذه المقالة ليست مجرد إحصائيات باردة أو تقارير مبهمة، بل هي صرخة من القلب، سأحاول من خلالها كشف جراحات النساء في زمن الحرب، وتسليط الضوء على تلك القصص المؤلمة التي غالبًا ما يتم حجبها وتجاهلها.
من بين قرابة 2.2 مليون من سكان مدينة غزة، فإن 49% منهم نساء، وأغلبهن ما زلن في سن الشباب. من بين 1.9 مليون نازح، هناك ما يقرب من مليون امرأة وفتاة، يبحثن عن ملجأ في ظروف إيواء محفوفة بالمخاطر، حيث لا يوجد مكان آمن في غزة. إن القرارات المستحيلة فيما يتعلق بالإخلاء، وكيف ومتى يتم ذلك، وأين تذهب؟ تتكرر من يوم الى آخر، فلا تلبث الاستقرار في مركز إيواء حتى تضطر للمغادرة مرة أخرى بأوامر إخلاء او خوفًا من القصف المستمر.
تصف التقارير وضع النساء في قطاع غزة بـ "الكارثي"، مسلطة الضوء على الضغوط والاحتياجات الحادة للأمهات والنساء الفلسطينيات في القطاع. وتشير التقديرات إلى أن 70 في المئة من الأشخاص الذين قُتلوا في غزة والذين يزيد عددهم عن 29 ألف شخص، هم من النساء والأطفال. هذا يعني مقتل والدتين كلّ ساعة وسبع نساء كلّ ساعتين، بحسب الأمم المتحدة.
النساء اللائي قُتلن في هذا العدوان ينتمين إلى جميع مناحي الحياة، ومن بينهن صحفيات وعاملات في الطواقم الطبية وموظفات في الأمم المتحدة وأعضاء في منظمات المجتمع المدني". الآلاف منهن ضحايا "لجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية والإبادة الجماعية التي تتكشف".
مأساة النساء الحوامل
تبدو قصص الحوامل واحدة من أفظع عناوين المأساة التي تعيشها الغزيّات، حيث يقدر صندوق الأمم المتحدة للسكان عدد الحوامل بأكثر من 50 ألفًا، بتن معرضات أكثر من غيرهن للموت أو الإجهاض وما يترتب عليه من مآسٍ صحية متعددة، وتزداد المأساة ألمًا، حينما تتحول المستشفيات إلى أفخاخ للموت يتناثر الموتى بين ممراتها وفي غرفها، بدون أن تحميها ظروفها الإنسانية. 180 امرأة تلد كل يوم في غزة، دون ماء أو مسكنات أو تخدير للعمليات القيصرية أو كهرباء للحاضنات أو مستلزمات طبية، "ومع ذلك، يواصلن رعاية أطفالهن والمرضى والمسنين، تخلط الأمهات حليب الأطفال بالمياه الملوثة، عندما يجدنه، ويبقين دون طعام حتى يتمكن أطفالهن من العيش يومًا آخر. علاوةً على ذلك أكثر من 690 ألف امرأة وفتاة في فترة الحيض لا يحصلن إلا بشكل محدود على المنتجات الخاصة بالدورة الشهرية، وفقا لصندوق الأمم المتحدة للسكان.
قوة الأصوات المناهضة للحرب في قدرتها على تسليط الضوء على كوارث الحروب وآثارها الوخيمة على البشرية. ففي حالتنا كنسويات فلسطينيات وناشطات في الداخل، نندّد كل الوقت بجرائم الحرب الّتي يتعرّض لها أبناء وبنات شعبنا الفلسطيني في قطاع غزّة، نشاهد ونسمع ببثّ حي ومباشر كما يرى ويسمع العالم أجمع معاناة الشعب الفلسطيني. النساء الفلسطينيات في غزة يعشْن منذ السابع من أكتوبر النزوح والهجرة القسرية، واقعهن يفتقر إلى أبسط مقوّمات الحياة الآمنة وإلى أبسط مقوّمات الحياة من مأكل ومشرب وعلاج، نسمع أصواتهنّ ونقرأ تصريحاتهنّ وهنّ تحصين أنفاسهنّ في محاولة للتصديق أنهن لا زلن أحياء فلا مكان آمن بقطاع غزّة.
تصلنا أصوات زميلاتنا من النسويات في غزة من خلال كتاباتهن وتوثيقاتهن على مواقع التواصل الاجتماعي ونحن نراهن يحاولن جاهدات الوقوف بوجه هذا العدوان والدفاع عن أبسط مقومات الحياة، فمؤخرا وصلتنا الأخبار عن تفجير وتدمير مأوى النساء المعنّفات (المأوى الوحيد الذي يوفر الحماية للنساء ضحايا العنف وأطفالهن في القطاع، تم تفجير البطاريات الخاصة بالطاقة وحرق المحتويات الداخلية للمركز في الطوابق الخمسة والسطح أيضًا وكُتبت العبارات البذيئة على جدران المبنى المحروق).
كناشطات تواجهنا تحديات كبيرة، فمذ اندلاع العدوان نواجه قمعًا كبيرًا من قبل السلطات للأصوات المناهضة للحرب وملاحقة النشطاء والسياسيين. في محاولة لتكميم أصوات الضمير في محاولة لتفريق الجهود السلمية وإلقاء الرعب في قلوب المدافعين عن الحقوق الإنسانية.
ومع ذلك حاولنا من خلال تواصلنا ودعمنا لبعضنا البعض أن نتكتل ونتشابك ونقيم أجسامًا للتعامل مع هذه الملاحقات بالإضافة لذلك حاولنا قدر الإمكان وبكثير من الحذر إسماع صوت الضمير وإيصال أصواتنا للمجتمع والمنظمات العالمية الحقوقية. ففي عالم مليء بالتحديات والصراعات، يبقى الحفاظ على قيمنا الإنسانية أمرًا حيويًا وضروريًا، خاصة في أوقات الحروب والصراعات حيث يختبر الإنسان وجوده وإيمانه بقيمه. إنها اللحظة التي تبرز فيها القيم الأخلاقية والإنسانية كأساس للتصرف والتفكير، وتصبح منارة تضيء دربنا في ظلام الصراعات.
ومن هنا يجب على المجتمع الدولي والمنظمات الحقوقية أن تدين بشدة هذه الممارسات وتعمل على الضغط على الحكومة الاسرائيلية لوقف الحرب والانتهاكات فورًا، لا يمكن أبدا الوقوف بصمتٍ أمام هذا الدمار والبشاعة التي تدمر إنسانيّتنا أيضًا. علينا المطالبة بوقف الملاحقات وقمع الأصوات المناهضة للحرب وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين. على المجتمع المحلي فلسطيني البلاد ألّا يسلم ويعتاد المشهد ويواصل بالطرق الممكنة إسماع صوته والمطالبة بوقف الحرب فورًا، من ناحية، ومن ناحية أخرى أن يواصل التضامن داخليًا ليتشجع ويواصل النضال والتضامن مع النشطاء المضطهدين وأعني الأقلية الايديولوجية في المجتمع الاسرائيلي الذين يحاولون إسماع صوت الضمير بالجانب الإسرائيلي.
في زمن الحرب، يجب أن نتذكر دائمًا أن الإنسانية هي قيمتنا الأساسية التي لا يمكن المساومة عليها، إنها القيمة التي تجمعنا كبشر وتمنحنا القوة للوقوف بجانب بعضنا البعض ومواجهة البشاعة والتحديات بشجاعة يجب أن نتذكر دائمًا أن القيم الإنسانية لا تتجزأ ولا تقبل التنازل. إنها القوة التي تدفعنا للتصرف بإنسانية وعدالة، وتلهمنا للعمل من أجل تحقيق التغيير الإيجابي والبناء لمستقبل أفضل.
الإحالات:
تصوير: معتز عزايزة.