أَيُّ "حِزب الله" يَنْتَظِرٌنا في العام 2025؟
لقد كان العام 2024 عامًا قاسيًا بشكل عام على العالم ككلّ، وعلى المنطقة بشكل خاص. الحرب التي ابتدأت في الشهر العاشر من العام 2023 استمرّت واحتدمت على مدار العام الحالي، ووصلت إلى قِمم (أو حضيض) لم تصِلها منذ سنوات. غداة عملية "طوفان الأقصى" التي نفّذتها حركتا "حماس" و"الجهاد الإسلامي" في غزة، فَتَح "حزب الله" ما أسماه "جبهة إسناد" لدعم غزة وتخفيف الضغط عنها. وقد ساهمت في الإسناد قوى أخرى، مِثل حركة "أنصار الله" في اليمن، وفئات من "الحشد الشعبي" في العراق خصوصًا "كتائب حزب الله في العراق"، بالإضافة طبعًا إلى دّعم الجمهورية الإسلامية في إيران التسليحّي واللوجستي.
لقد أدى السابع من أكتوبر وتَداعياته اللاحقة إلى ضَعضعة أُسس المجتمع الإسرائيلي الذي كان يعاني من انقسامات عميقة بين فئاته السياسية والاجتماعية حول كلّ ما يخصّ "الانقلاب القضائي" الذي قادته حكومة بنيامين نتانياهو، على خلفيّة الصدام بين سلطات الدولة المختلفة، ومحاولة تكبيل الجهاز القضائي لأيدي الحكومة بشكل عام، ولأيدي نتنياهو بشكل خاص، في قضايا الفساد وخيانة الأمانة وما إلى ذلك. ومع حُدوث عمليّة "طوفان الأقصى"، وَجَد بنيامين نتانياهو ضالّته في الركوب على ظَهر هذه الموجَة من أجل استغلالها أيضًا في السياسات الداخلية الإسرائيلية، فبدأ حربًا على غزة "لا تبقي ولا تذر" تحت يافطة أهداف مُعلنة، هي إنهاء حركة "حماس"، وتخليص الأسرى الإسرائيليين لديها. وهي أهداف لم يحقّقها حتى الساعة.
في مرحلة لاحقة، أَوعزت الحكومة الإسرائيلية للجيش بالالتفاف إلى الجبهة الشمالية من أجل ضَرب "حزب الله" ومعاقبته على تجرّؤه على إسناد غزة، ورَفْضِه وقف إطلاق النار المستمر على مدار 11 شهرًا. تلقّى الحزب ضَربات صعبة وقاسية خلال هذه الفترة، تمثَّل ذلك بقتل أعداد كبيرة مِن مقاتليه، وضَرب مؤسساته العسكرية والمدنية والمالية والصحية، وكذلك اغتيال أمينه العام السيد حسن نصرالله، الذي كان على مَدار 32 عامًا أمينه العام الذي شكّل الحزب إلى حدّ بعيد على شاكلته، من حيث الانفتاح على الساحة اللبنانية من جهة، والتشدد في قضية المقاومة من الجهة الأخرى، بالإضافة إلى إغتيال مجموعة إضافية من قيادات الصف الأول للحزب، مثل رئيس المجلس التنفيذي للحزب السيّد هاشم صفي الدين، أو القيادات العسكرية مثل الحاج محسن (فؤاد شكر)، لكن على الرغم من كلّ هذه الخسارات، يمكنني القول إن كوادر الحزب العسكرية استطاعت إلى حدّ كبير في المدى القصير احتواء الضربات، وتسديد ضربات مؤلمة عدّة للجانب الإسرائيلي، سواء من خلال عدم التوقف عن ضرب العمق الإسرائيلي بالصواريخ والمسيرات، أو مَنع النازحين الإسرائيليين عَن القرى والمدن القائمة مباشرة على الحدود مِن العودة إلى بيوتهم حتى لحظة كتابة هذا المقال، أو مِن خلال تكبيد الجيش الإسرائيلي خسائر كبيرة بالإصابات البشرية والآليات أثناء محاولاته التوغّل البريّ في الجنوب اللبناني، الأمر الذي أدى في نهاية المطاف إلى قبول الطرفين اتفاقَ إطلاق النار الذي وُقّع مؤخرًا، ولا يزال غير معروف إن كان قادرًا على الصمود، أم أنه هو مجّرد "استراحة محارب" لكي يلتقط الطرفان أنفاسهما.
لقد دَخَل "حزب الله" إلى العام 2024 وهو رَقمٌ صعب في معادلة الحرب الدائرة في المنطقة. وهو يودّعه فيما يُلملم الكثير مِن جراحه كما ذكرت. هل يعني هذا الأمر أننا على أعتاب "انتهاء" حزب الله؟ أو على أبواب انتهاء شِقّه العسكري؟ هل سيستطيع الحزب استعادة توازنه أيضًا على المدى المتوسط والبعيد، وليس فقط على المدى القريب؟
كلّ هذه الأسئلة هي أسئلة مشروعة ومهمّة، وكلّها تتعلق بعوامل كثيرة ليست متعلّقة حصرًا بـ "حزب الله" نفسه، بل هناك بالإضافة إلى العامل الذاتي حسابات اللاعبين الآخرين في المعادلة داخل لبنان وخارجَه.
على الصعيد الذاتي، فإن الاختبار الأول أمام الحزب هو محاولة "لَملمة نفسه" وإعادة العمل على تسليح نفسه وبناء قدراته العسكرية والتنظيمية وترميم هيكلياته السياسية، وانتخاب قيادات جديدة للمناصب السياسية التي شغرت نتيجة الاستهدافات الإسرائيلية. يلي ذلك حاجة الحزب للوقوف خلف التزاماته لمؤيّديه ولبيئته الحاضنة بالبدء بعملية إعادة أعمار التدمير الهائل الذي لحق بمناطقة، وهو الأمر الذي وعدت إيران بالمساندة فيه كما فعلت في العام 2006 بعد حرب تموز (لبنان الثانية)، وإعادة الأعمار هي نقطة حاسمة في قدرة قيادة الحزب الجديدة على الفوز بثقة جمهورها من جديد، وإثبات أن الحزب هو أكبر من أي شخص حتى لو كان هذا الشخص تاريخيًا، وذا كاريزما طاغية مثل حسن نصرالله.
ثُمّ على الحزب مقاربة الوضع اللبناني مِن جديد، إذ توجد فئات وأحزاب وحركات داخل الخريطة السياسية اللبنانية تُكنّ له العداء، وتنتظر الفُرصة لكي "تُقَصْقِصَ" أجنحته سياسيًا أيضًا وليس فقط عسكريًا، وهو الأمر الذي يبدو لي متسرعًا بعض الشيء، وفيه الكثير من سوء التقدير لحقيقة الوضع الحالي لـ "حزب الله"، الذي وإن كان قد تلقى ضربات قاسية جدًا، فإنه لا يزال الأقوى عسكريًا والأكبر تنظيميًا داخل لبنان. لكن مقاربة الوضع اللبناني تُلزم "حزب الله" أيضًا بإعادة قراءة مشهد التحالفات والاستحقاقات الداخلية اللبنانية مع حلفائه وأصدقائه داخل لبنان. فأحد تحديات الحزب هي تمتين تحالفاته السابقة وتعميقها خصوصًا مع "التيار الوطني الحرّ"، وكذلك إعادة صياغة علاقته مع حركة "أمل" في ظلّ غياب حسن نصرالله، والانتباه بأن لا يتم بعد غياب نصر الله الإخلال بتقاسم الأدوار الذي تم رسمه على مدار عقود بين الحزب ورئيس مجلس النواب، نبيه بري.
بعد كلّ ذلك، يبرُز السؤال الأهم حول قدرة حزب الله على الاستمرار في المزاوَجة بين توجهه المقاوم وحفاظه على سلاحه على الرغم من كلّ الضربات من جهة، وسياسة الانفتاح على الآخر االلبناني من الجهة الأخرى، وهي السياسة التي كان عرّابها الأمين العام الأسبق للحزب عباس الموسوي، والتي أبدع بها الأمين العام السابق حسن نصرالله.
يبقى العام القادم (2025) عامًا مفتاحيًا بِرَسم مستقبل "حزب الله"، فإذا استطاعت قيادة الحزب الجديدة البدء بإنجاز جميع هذه المهام، يمكن اعتبار أن الحزب لا يزال رقمًا صعبًا في المعادلة اللبنانية والإقليمية ولا يُمكن تجاوُزه، ولا حتى مِن خلال إذكاء نار الحرب على الجبهة الشمالية مرّة أخرى.
د. عبد كناعنة
الكاتب باحث ومحاضر في قسم تاريخ الشرق الأوسط وأفريقيا في جامعة تل أبيب