مَعرَض "كَشَّاش": هديتّي إلى دمشق وتَلويحَةُ احتفاءٍ بالحرّية والكَرامة

وُلِدَ معرض "كَشَّاش"[1] في عام ٢٠١٧ كهدية منّي إلى دمشق أثناء الثورة السورية، ليكون نداءً فنيًّا وإنسانيًّا يطالب بوقف القصف وتحرير السَماء السورية التي شوّهها العنف. كان المَعرض شَهادة على تحوّل السماء، رمزِ الحرّية والطموح، إلى ساحة حرب، حيث امتَزَجت أسراب الحمام بالطائرات الحربيّة. ومع سُقوط الطغيان، أُعيدُ تقديم المعرض اليوم كاحتفال بالتجدّد واستعادة الكرامة، ودعوة لحماية التراث الثقافي اللامادي لسوريا. 

هديّة إلى دمشق: تحرير السماء واستعادة الأسطح

في بدايته، جاء المعرض كنداء عالميّ يطالب بعودة السماء إلى طبيعتها، فضاءً مفتوحًا للسّلام حيث تحلّق الحمائم بحريّة فوق أسطح دمشق. هذه الأسطح، التي كانت تُمثّل منصات للتأمل والتواصل مع السماء، وتحولت إمّا إلى مواقع عسكرية تجسّد القمع والخوف أو إلى رَدْم من الإسمنت. واستُبدِل الكَشَّاش -كشخصية درامية تحتلّ المساحة- بالقنّاص.

المعرض، في جوهره، يعكس رغبة عميقة في استعادة هذه المساحات كرمز للحرية والأمل والتأمل الذي يشبه سلام دمشق. 

الجامع الأمويّ: الحامِل الروحيّ للمعرض

في قَلب دمشق القديمة، يشكّل الجامع الأمويّ بقبابه ومآذنه المَركَز الرمزيّ لمعرض كَشَّاش. هذا المَعْلم التاريخي رمَّزَته القَيِّمَة بعملي الفني (iconostasis)[2] أو "حامل الأيقونة"، وبالتعاون مع الفنان عمار البيك الذي وَضعت لوحَتَه 'ماس'، وهي مُشَكّلة من مخلّفات الحَمام على كانڤاس (قماش الخيش)، على مُك!عب ذهبي يرمز للمعبد وأحطُته بـ ٢٥ مترًا من قماش البروكار الدمشقيّ الذهبيّ بنقشة العصفور جلبتُه مِن دمشق لعرضه في متحف البوزار في بروكسل في عام ٢٠١٩.

يجمع المعبد طَبقاتٍ متراكمة من التاريخ والتنوع الثقافي-من مَعبد وثنيّ للإله حدد إلى مَعبد بيزنطي ومن ثم روماني إلى كنيسة تحمل رفاة القديس يوحنا المعمدان ورأسه برمزّية الرأس، وصولًا إلى جامع يُعتبر أحد أهمّ مراكز دين الإسلام في العالم - وتتداخل صورة المسجد الأموي مع الأسطح المحيطة حيث يُمارس مربو الحمام تقليدهم العريق.

في هذا التّداخل بين الجامع والأسطح، يَبرز الحَمام كرمز للانسجام بين الروحانية والحياة اليومية. تمثّل الطيور التي تحلّق فوق الجامع والأسطح الحرية الروحية والطموح الإنساني، بينما تَحمِل مُخلّفاتها، التي تتناثر في ساحة الجامع، رمزيّة مزدوجة. هذه المخلّفات التي قد تبدو للبعض مجرد شوائب، بَدَت لي كجواهر ترمز إلى هشاشة مجتمع الكشّاشين الذين تم اضطهادهم بشكل ممنهَج، ويصبح الحَمام استعارة عن العلاقة بين المقدّس واليومي. فهي تذكّرنا بأن القداسة ليست خالية من أثر الحياة اليومية، وأن الفوضى الطبيعية قد تكون جزءًا من التوازن الروحيّ والمادي. مُخلّفات الحمام هي بصمة السماء على الأرض، شهادة على الحياة المستمرة التي تتحدى محاولات التدمير والنسيان. 

البَحث عن المَعبد الشخصيّ

يَتجاوز الجامع الأموي في المعرض كونه رمزًا معماريًّا ليصبح استعارة لمعبَدي ومَركزي الشخصيّ الضائع في المنفى. يمثّل الجامع، بما يحمله من تاريخ متعدد الطبقات، رحلةَ البحث عن الجذور والانتماء في ظلّ المنفى. في هذا السِياق، يتحوّل المعرض إلى مساحة لاستكشاف الذات، حيث يصبح الحَمام الذي يحلّق فوق الجامع رمزًا للحرية المنشودة، ومُخلّفاته في الساحة دليلًا على التداخل بين الطموح الإنساني والواقع الأرضي، بين الجماليّة والفوضى.

تربية الحَمام كتراثٍ لا ماديّ

يُركّز المعرض على تربية الحَمام، أو كشّ الحمام، كتقليد عريق وَحَيّ يعكس العلاقة العميقة بين الإنسان والطبيعة. يمارِس الكَشَّاشون هذا التقليد منذ أجيال على أسطح دمشق، حيث تتحوّل الطيور إلى رموز للطيران بمعناه الوجودي والفلسفي. لكن الصراع عرّض هذا التراث للخطر، حيث أصبح الكَشَّاشون ضحايا للتهميش والقمع.

يدعو معرض كَشَّاش إلى حماية تربية الحَمام كجزء من التراث الثقافي اللا مادي لسوريا، ويدعو إلى توثيق هذا التَقليد والحِفاظ عليه للأجيال القادمة. من خلال تسليط الضوء عليه، يعزّز المعرض أهمية استعادة الممارسات الثقافية كجزء من إعادة بناء الهويّات السورية المتنوّعة.

رِسالة الِمعرض: مِنَ الهديّة إلى الدّعوة للتجدّد

معرض كَشَّاش، الذي بدأ كهدية لدمشق، يُعاد اليوم تقديمه كاحتفال بالحرّية ودعوة لحماية الهوية الثقافية المتنوّعة لسوريا. من خلال الجَمع بين الجامع الأموي بطبقاته الثقافية المتنوعة والأسطح المحيطة به، وبين تربية الحمام والبحث عن الذات، يقدم المعرض رؤية فنيّة لإعادة بناء الروح السورية.

الجامع والأسطح، في تَداخل فَريد بين القداسة واليوميّة، يمثلان نسيجًا غنيًّا من التراث والحياة، بينما تصبح مُخلّفات الحمام في ساحة الجامع استعارة عن التوازن بين الطموح الروحي إلى لقاء الآخر المختلف وثقل الحياة اليوميّة. معرض كَشَّاش هو رسالة عشق لدمشق، ودعوة لتجدّد شعب يستعيد اليوم كرامته وهويّاته المتعدّدة في سماء جديدة مفتوحة للأمل والجمال.


[1]   الكشاش مفردة تطلق على مربي الطيور في سورية، وجذرها الفعل "كشّ"؛ أي أبعد الطائر بحركة من يده.

[2] في المسيحية الشرقية، الأيقونسطاس هو جدار من الأيقونات واللوحات الدينية، يفصل صحن الكنيسة عن حرمها. يشير الحاجز الأيقوني أيضًا إلى حامل الأيقونات المحمول الذي يمكن وضعه في أي مكان داخل الكنيسة. ويكيبيديا (إنجليزية)

ألما سالم

قيّمة معارض ومستشارة ثقافية

رأيك يهمنا