"انتَهَت" الحَرب… فَلْتَبدأ المُساءَلة
انتَهَت، نسبيًّا، حرب الإبادة الإسرائيلية في غزّة. قَبلها كانت قد انتهت، نسبيًّا أيضًا، الحرب التي شنّتها على لبنان. ومَعَ واقع "السّلم" الجديد، اعتَدنا في غالبية بلداننا العربية، وتحديدًا في مثلّث البؤس؛ فلسطين ولبنان سوريا، أن نَطوي الصفحة من دون أن نُفكّر حتى في ما حصل. جزءٌ من هذا التوجُّه المُكرّر، مُرتبط بما يردّده كثرٌ لنا: الصُمود. التأقلُم على أنّ الحياة تستمر، وأنّ الحساب أو المساءَلة من الأشياء التي تتطلّب رفاهيةً عاليةً ليس لنا أن نَحلُم بها.
ولعلّ دورَ وسائل الإعلام العربية، كان كبيرًا في تكريس هذا الواقع. إذ غالبًا ما تنتهي الحروب بانتصارٍ دائم. أما شكلُ هذا الانتصار، فلا يَهمّ. المهمّ أنّه انتصار يُكرّس سرديّة القناة أو الموقع أو الجريدة. وجهات النظر هنا يُمكن أن تكون مطاطةً جدًا. فما يرونه انتصارًا، قد يراه المواطن هزيمةً ساحقةً، أو العكس. لكن لا يهمّ، يأتي رأيُ المواطنين وأصحابُ الأرض في آخر الأولويات. المشروع الكبير يتقدّم على كُلّ هذه التفاصيل التي نحاول أن نُقنع أنفسنا بها. حقوق، ورأي، وحريات. ما هذا الكلام الكبير الذي نردّده نحن المواطنين العاديين؟ أساسًا لماذا نتكلّم؟
في الحرب الأخيرة، في غزّة ولبنان، عاد الإعلام نفسه، المملوك غالبًا من دُول أو سياسيين رأسماليين أو سياسيين خلفهم رأسماليون وغيرهم، إلى الخانة نفسها. هناك من قال منذ اللحظة الأولى إنّ "طوفان الأقصى"، هزيمة ساحقة لإسرائيل لن تتكرر وستغيّر المعادلات، وبنى سرديّته كلّها لاحقًا على هذا الاستنتاج الذي ربما كان له في ذلك الحين شيء من الواقعيّة. وهناك من اعتبر أنّ ما قامت به "حماس" انتحار، ومشروع يتعدّى فلسطين مُرتبط بالمشروع الإقليمي الأوسع، أَي إيران وما يُعرف بمحور قوى الممانعة.
منذ تلك اللحظة، حَرِص الجَميع على اختيار "محلّلين" (ولا أبالغ إن قلت إنّ معظمهم -إن لم أقل جميعهم- لا تنطبق عليهم صفة المحلّل)، يروون السرديّة التي تريدها القناة. هناك "محللون" أو ضيوف، "نُفض عنهم" الغُبار -بالإشارة إلى أفكارهم لا أعمارهم- لكي يملأوا الهواء ويُخبروا "المواطن" العادي الذي يعاني وحيدًا، في غزّة ولبنان والعالم العربي كلّه والاغتراب، بصوابية سرديّة القناة أو بالأحرى صوابية المشروع الموازي الذي يقف خلف كُلّ قناة أو مؤسسة مملوكة، من الجهات التي ذكرتها آنفًا.
في غضون تلك الفترة، كان المواطن الغزّي غير موجود إلا خلال تِعداد الضحايا وأسماء الجرحى. كذلك الأمر في لبنان. مجرّد أرقام في المعركة الكبرى التي ستنتهي بفوزٍ ساحق أو هزيمة نكراء كما حلّل منذ اللحظة الأولى، "العسكريون المتقاعدون" الذين تحوّلوا فجأةً إلى خبراء في التكتيكات العسكرية، هم القادمون من جيوش لم تخض في الخمسين سنةً الماضية أي مواجهة فعلية. جيوش غالبيتها كانت تخوض معارك داخليةً ضد مواطنيها، أو تقف متفرّجةً على مواطنيها، أو تنقسم كمواطني بلادها.
خلال التغطية كلّها، على مدى عام وأربعة أشهر تقريبًا، كانت تلك القنوات، تحلّل عسكريًّا وسياسيًّا وتمرّ على المجازر إمّا لتتحدّث عن إجرام الإسرائيلي أو لتقول إنّ هذا سبّبته "حماس". أينَ المواطن الغزّي من ذلك كلّه؟ غير موجود. يعتقد هذا الإعلام أنّ الدفاع عن القضية الفلسطينية محصور في ما يراه هو مناسبًا، وفي خضَمّ هذه المعركة، حقوق المواطنين الذين يعيشون ويلات الحرب ليست لها الأولوية، فلا صوت يعلو فوق صوت المعركة. رأي الناس في النقاشات الإعلامية غير ضروري بالنسبة للكثير من تلك المؤسسات. تجاهل المعاناة اليومية وقصص الناس التي لا تنطق بما "يجب"، هو الثابت… إلخ.
هذا الواقع، على ما فيه مِن استقطاب حادّ، وإهانة لعقول الناس، وإقصاء متعمّد، سينتج عنه ما سنشهده في مرحلة ما بَعد الكارثة؛ أَي سنعود لنسمع روايات النصر في مكان، وسرديّة الهزيمة التي سببّتها حماس في مكان آخر. الرأي الوسط، غير موجود، والتّحليل لا مكان له أيضًا.
هنا، يأتي من يحاول أن يكسر حلقات الاستقطاب بما أمكن من إمكانيات. أتحدّث عن الإعلام المستقلّ كـ "رصيف22"، و"فارءه معاي" وغيرهما من مؤسسات تحاول أن تعيد شيئًا من المهنيّة إلى هذه المساحة التي يحتلّها أصحاب الأموال. يأتي دور هذه المؤسسات المستقلّة والبديلة لتُعطي لقصص الناس أولويةً قصوى، وليكون لهؤلاء منبر يعبّرون فيه عن رأيهم، بغضّ النظر عن فحواه، بكُل حرية ومن دون قيد أو شرط. هنا المساحة لصحافة إنسانية تقول إننا مواطنون لدينا الحقّ في أن نقول لا، أو أن نقول ما نريد؛ مع أو ضدّ أو في الوسط، ولنقول إننا تعبنا وسئمنا من احتكار أصواتنا.
أذكر النقاشات التي حصلت في "رصيف22"، بعد السابع من أكتوبر. أذكر أننا اختلفنا في مقاربة ما حصل، وأذكر أننا اتّفقنا على أنّ الاختلاف هو ما يغنينا، وأنّ واجبنا أن نُدرك أنّ الاختلاف غنى، إذا ما أردنا أن نخرج من المستنقَع الذي وُضعنا فيه في هذه المنطقة. واختلافنا في المؤسسّة الصغيرة جعلها، كما دائمًا، مفتوحةً أمام مختلف السرديّات التي يرويها الناس. الناس فحسب.
خلال تلك الفترة، تفاعلنا وبكينا وفرحنا. كتبنا عن الفئات المهمّشة كلّها، في غزّة ولبنان، والفئات كلّها مهمّشة في بلادنا، حتى لو لم تكن تعرف ذلك.
ماذا نُريد؟ القليل من العدالة ومساحةً لنقول إنّ من حقّ شعوبنا أن تروي سيرتها كما تُريد، وليس كما يُراد لها.
هل سننجح؟ لنا أن نحاول وأن نستمرّ بما نملك من إيمان بأنّ الإنسان فوق الحسابات والسياسات و"المؤسسات" كلّها.
"انتهت" الحَرب.
اليوم يجب أن تُفتح صفحة المساءَلة.