"التّغريبَة الفِلسطينيّة".. الدّراما الّتي رَوَت الحِكاية كَما هيَ

يُعدّ مسلسل "التغريبة الفلسطينية" واحدًا مِن أبرز الأعمال الدراميّة العربية التي تناولت القضية الفلسطينية بِعُمق وصِدق نادرَين، ومنذ عرضه الأول عام 2004، تحوَّل هذا العمل إلى مَرجع سَردي وتوثيقي للنكبة، ومصدرٍ أساسي لفهم واقع الفلسطينيين مِن منظور إنساني بعيد عن الخطاب الدعائي أو السياسيّ المباشر.
قدّم المسلسل قصّة عائلة واحدة، استطاعت أن تمثّل معاناة مئات آلاف العائلات الفلسطينية التي مرّت بتجربة التّهجير والشتات نفسها، واعتمدَ على سرد متسلسل وواضح بدأ مِن الحياة اليومية البسيطة في القرى الفلسطينية، مرورًا بالمجازر والتّهجير، وما تبعه مِن ضياع وانكسار.
نَجَح المسلسل في تقديم الرّواية الفلسطينية مِن الدّاخل، ليس كموضوع خارجي يُشرَح للناس، بل كحكاية شخصيّة يَعيشها مَن هُم داخلها فعلًا. وكانت شخصيّة "علي" الراوي نافذة المُشاهد على الذاكرة، حيث عبّرت عبارته الشّهيرة: "كنّا نعتقد على نحوٍ ما أنّ النكبة الكبرى لا يُمكن أن تقع... يَجب أن تكون مَوازين الكون قد اختلّت لكي تضيع فلسطين!" عَن صدمَة النّكبة وشعور عدم التّصديق الذي ما زال يتكرّر –آنيًا- مع كلّ تهجير جديد.
لا يُمكن فَصل نَجاح المسلسل الكبير عن العلاقة الخاصة بين المُخرج حاتم علي والكاتب وليد سيف. ويُشير حاتم علي في أَحَد حواراته في كتاب "الاستبداد المُفرِح" إلى أنّ العمل لم يكن مجرّد مهمة مهنيّة، بل تجربة شخصية، شَعَر خلالها بأن الشخصيات تُشبهه وأن الحِكاية تخصّه بقدر ما تخصّ كلّ الفلسطينيين.
ويُضيف بأنّه حاول مِن خلاله كَسْر النّمط المعتاد في تقديم القضية الفلسطينية القائم على الخطابة والمثاليّة الزائفة، وذلك عَبر تقديم شخصيات معقَّدة بأخطائها وتفاصيلها اليوميّة؛ وهي شخصيات تُعاني، وتنهار، وتُحب وتُخطِئ، وهو ما كان كفيلًا بجعلها أَقرَب إلى الناس.
يؤكّد عَلي في حواراته على أنّ واحدة مِن أهم مميزات المسلسل، هي أنّ المشاهدين حَضَروا فيه كمشاركين في استعادة جماعيّة للذاكرة، وكانوا مع صُنّاعه كأنّهم يعيدون بناء الحكاية معًا، وهو ما يفسّر استمرار المطالَبة بإعادة عرضه حتى اليوم.
ويوضح أنّ هذه الاستعادة الجماعيّة ليست مجرّد حنين، بل شَكل مِن "تنظيم الحُزن" وإعادة تأطير التجربة الفلسطينية بطريقة تُساعد على الفهم والتّماسك، ومن هنا –بحسبه- جاءت تسمية "التّغريبة الفلسطينية" كمصطلح تحوَّل مِن توصيف أدبي إلى مفهوم اجتماعي وسياسي شامل، يُشير إلى مأساة متجدّدة لا لحظة انتهت في الماضي.
لم يَكن "التّغريبة" مجرّد عمل درامي، بل كان وسيلة مهمّة لنشر الوعي بالقضية الفلسطينية لدى أجيال كاملة، فقد تمكّن عَبر قصّة عائلة فلسطينية واحدة، مِن نَقل تجربة التهجير والشّتات التي عاشها آلاف الفلسطينيين بشكل قريب وواقعي، وساهم في تعريف الأجيال العربية بالنكبة وتأثيراتها على حياة الفلسطينيين، وهو ما جعله يُصبح مصدرًا لفهم التاريخ الفلسطيني، كما دَخَل في الحوارات اليومية، وصار رمزًا واضحًا يعبّر عن معاناة شعب بأكمله.
لم يتوقّف دَور المسلسل عند سَرد الماضي، بل استمر حاضرًا مع تكرار الأحداث التي تُعيد الفلسطينيين إلى أَلَم النّكبات، ولا يزال يُعاد عرضه ويُستشهد به عند وقوع مجازر أو فقدان منازل، ليكون شاهدًا على استمرار المعاناة الفلسطينية، وبهذا، لم يَعد العمل مجرّد ذكرى مِن الماضي، بل حكاية يعيشها الفلسطينيون يوميًّا، ويساعد في الحفاظ على الذاكرة الجماعية وتعزيز الوعي عَبر الأجيال المختلفة.
لعلّ مسلسل "التّغريبة الفلسطينية" يَصلح في توصيفه العام كأكثر مِن عمل فنّي، فهو ذاكرة حيّة ساهمت وتساهِم في فَهم الواقع الفلسطيني بوضوح وبساطة، وطالما جاء ليطرح تساؤلات مهمّة حول كيفية مواجهة الفلسطينيين لتحدياتهم اليوميّة في ظلّ استمرار النكبات، وليذكّر بأهمية الاستمرار في سَرد القصة الفلسطينية، ليس كحكاية تاريخيّة فقط، بل كجزء مِن الهوية والوعيْ المستمرّ.

إسراء عرفات
كاتبة وباحثة من نابلس. خرّيجة قسم العلوم السياسيّة في جامعة النجاح الوطنيّة، وحاصلة على الماجستير في التخطيط والتنمية السياسيّة من الجامعة نفسها. مهتمّة بقضايا الفكر والفلسفة، وتكتب في عدد من المنابر الفلسطينيّة والعربيّة