الطُّفولَة في فِلسطين عِبءٌ على كاهِل صاحِبِها

للطّفولة في فلسطين وجوه غير مَعهودة إذا قارناها بوجوهها المألوفة في غالبية الأماكن على هذه الكُرة الأرضيّة. وهذا ليس نتيجة خللٍ وراثي لدى أبناء الشعب الفلسطيني يُغيّر في ملامح الطفل وهيئته، فالطفل يَبقى طفلًا في ظاهره، لكن التجارب التي يمرّ بها هؤلاء الأطفال هي الّتي تعيد هندسة سلوكياتهم واهتماماتهم وتجعل منهم أطفالًا مَنزوعي الطفولة رَغمًا عنهم.

لا يُمكن أن أَكتب عن الطفل الفلسطيني دون أن أَستَعيد نصًّا كتبه الأسير الشهيد وليد دقة "عمّي أعطيني سيجارة" قبل نحو خمسة عشر عامًا، وهو يَعرض بأقسى الصُوَر ما تحمله هذه الطفولة من تناقضات. ورغم مرور السنون لا يزال هذا التناقض يتكرّر وربما يزداد تطرّفًا. يَصف وليد دقة في نصه طفلًا لم يتجاوز الاثني عشر عامًا وهو داخل زنزانة لا يَصِلُ الشُبّاك الذي في بابها بسبب قِصَر قامته، وينادي عليه من الفَتحة في أسفل الباب طالبًا منه سيجارة. يقف وليد دقة أمام هذا المشهد حائرًا، هل يُلبّي مَطلبه أم أن عليه أن يَنهاه عن التّدخين كما يَفعل الكبار مع الصغار في أيّ مكان خارج تلك الجُدران؟

يأتي السَجّان ليكبّل يَدَي الطّفل وقدميه، وإذ بحجم الأصفاد كبير، ما يضّطره لأن يكبل رجليه بأَصفاد اليَدين. يُثير مَشهد السيجارة في يديّ الطّفل الاستغراب لدى السّجان بما يَحمِلُه مِن تناقض بين عالَم الكبار وعالَم الصغار، لكنّ عمليّة التقييد ووجود هذا الطفل أصلًا داخل السجن لا تثير لدى هذا السّجان مشاعر التناقض ذاتها.

تبدو بَلادة شُعور مؤسسات الدولة تجاه الطفولة – فيما إذا كانت فلسطينية - كما وصفها وليد دقة، واضحة وجليّة في المُعطَيات التي تنشرها، والتي تُفيد أن عدد الأطفال الفلسطينيين المحتجزين في السجون الإسرائيلية الرسميّة (لا يشمل المعتقلات العسكرية) بَلَغَ 300 طفل في كانون الأول 2024،  112 منهم معتقَلون إداريون، أيّ دون تهمة، و25 آخرون من سكان غزة معتقَلون وفق قانون "المقاتل غير الشرعي" وهي صيغة أوجَدَتها إسرائيل ليتسنى لها اعتقال المدنيين واحتجازهم دون تهمة، ومن أجل استعمال المعتقل كورقة ضَغط في عمليات تبادل مستقبليّة. احتجزت إسرائيل وِفق هذا القانون الذي يُعتبر التفافًا واضحًا وصريحًا على القانون الدولي 25 قاصرًا من سكان غزة، وطفلًا سوريًّا اختطفته من الأراضي السورية. من الجدير ذكره أن نادي الأسير الفلسطيني رصد منذ بدء الحرب على غزة 1،200 حالة اعتقال أطفالٍ فلسطينيين.

للأسف، لم نَكن بحاجة لهذه الحرب التي أزهَقَت أرواح عشرات آلاف الأطفال في غزة حتى نفهم أن الطفولة في فلسطين لم تُستثن يومًا من دائرة الاستهداف. تمّ في سنوات سبقت توثيق اعتقالات أطفال بشكل دوريّ، تعمّد المحتَل تنفيذها في ساعات الليل مقتحمًا حرمات البيوت الآمنة، وأفراد العائلة نيام، ليستيقظ الطفل وَيَجد عددًا كبيرًا من الجنود حول سريره حاضرًا للقَبض عليه. ولا حاجة لأن نتطرّق لوَقْع مثل هذا الحدث على الطفل المعتقل وإخوانه، فاختراق هذا المكان الآمن – البيت- في ساعات الليل، تحت تهديد السلاح، وعَجز الوالدين عن حِماية أطفالهم هو بمثابة صَدمة لا يُمكن تخطيّها بسهولة لكل أفراد العائلة. وعلى الرغم من انتقادات منظّمات دوليّة مختلفة لاعتماد الاعتقالات الليلية للأطفال، لما تحمِله من انتهاكات لحقوق الطفل، وفق اتفاقية حقوق الطفل الصادرة عن الأمم المتحدة (1989)، وهي واحدة من الاتفاقيات القليلة التي وقّعت عليها إسرائيل وتبنتها في المنظومة القانونية الداخلية، فقد أصرّت إسرائيل على استثناء الأطفال الفلسطينيين من هذه الحماية المُطلقة لحقوق الطفل وحافظت، تحت رعاية المحكمة العليا، على "الحق باعتقال الأطفال ليلًا ودون سابق إنذار" في حالات معينة، حالات بقيت مواصفاتها سرّية.[1] طبعًا هذه القيود على سياسات الاعتقال الليلي للأطفال، التي صوّرتها المحكمة العليا كاستثناء، عادَت لتكون هي الحالة الشائعة، وبقيت الحالات التي تم الالتزام فيها بالمعايير الدولية لحماية الطفل هي الاستثناء.

كذلك الأمر في كلّ ما يخصّ حقوق الطفل في التحقيق وفي الإجراءات القانونية أمام المحكمة، وحتى في ظروف الاعتقال نفسه، ولا مَجال لحصر كلّ الانتهاكات التي يتعرّض لها الأطفال الفلسطينيون في مَقال واحد، لتنوّعها وإسقاطاتها المختلفة، طويلة وقصيرة الأمد على حدّ سواء. لكنّ أبرز هذه الانتهاكات في الأيام الحالية هو عدم استثناء الأطفال من حالة الطوارئ التي تمّ إعلانها في السّجون مع بدء الحرب قبل ما يقارب السنة ونصف السنة، والتي تم على أَثَرها مَسح كلّ إمكانية لأن يُعامَل هؤلاء الأطفال، المُحتَجَز نصفهم بشكل تعسفي ودون أيّ تهمة، بأيّ نوع من الالتفات للمعايير الدولية المتعلّقة بالطفولة.

يقبع الأطفال الفلسطينيون في السجون الإسرائيلية بانقطاع تام وغير مسبوق عن العالم الخارجي ودون أيّ وسيلة تواصُل مع ذويهم. حتى تواصلهم من خلال المحامين يكون محدودًا جدًّا، نظرًا للصعوبات التي تضعها مصلحة السجون أمام هؤلاء المحامين في كلّ مرّة يطلبون مقابلة موكّليهم، دون أيّ مراعاة لصغر سنهم. هذا هو الوضع الذي يعيش فيه مئات الأطفال اليوم، حيث تمارس عليهم سياسات التجويع وإفقاد الوزن الأمر الذي يبدو واضحًا وجليًّا على أجسادهم. هناك أَطفال زُرتُهم خلال هذه الحرب يَحلُمون بالنّوم دون الشّعور بالجوع.

لا تَستثنيهم سياسات القمع والتّعذيب وهم يتعرّضون للضرب والمعاملة غير الإنسانية أيضًا، الشعور بالخوف والتهديد دائمان ولا وسيلة لحمايتهم. أطفال كُثُر أصيبوا بأمراض جلدية، منها الجَرَب الذي انتشر مؤخرًا في السجون بسبب عدم توفر الحدّ الأدنى من متطلّبات النظافة الشخصية، وواجهوا سياسات الإهمال الطبي المعهودة في حالة الأسرى العامة. اضطر هؤلاء الأطفال أن يواجهوا هذا المرض المزعج والمتعب جدًّا وحدهم دون رفقة ورعاية شخص بالِغ يثقون به. منهم من استغرقت مدة علاجهم أشهرًا طويلة بسبب عدم التزام مصلحة السجون بتوفير العلاج وظروف النظافة التي تساهم في عملية الشفاء وحتى الوقاية من الإصابة بالمرض.

عانى أطفال كُثُر من البرد الشديد دون أن تُوفّر لهم ملابس دافئة أو حتى بطانيات كافية لتقيهم برد الشتاء، ولم يتم الّتجاوب مع مطالبهم لزيادة الملابس أو البطانيات.

أشكال التنكيل متعدّدة وتحمل وجوهًا مختلفة. قد يُضرب الطفل، أو يُحرم من احتياجات أساسية كالطعام والعلاج، وقد يتم التنكيل به نفسيًّا بالشعور المستمر بالتهديد، وانقطاع الوصال التام وغياب أخبار العائلة، أو من خلال غياب أيّ أفق واضح لانتهاء حالة الأسر – كما هو الحال مع المعتقَلين الإداريين منهم – أو حتى من خلال احتجازهم باكتظاظ غير مسبوق دون إمكانية فعلية للمشي من أجل الحفاظ على الصحة البدنية ولو بالحدّ الأدنى، ولا حتى إمكانية فعلية لأن يتعرض الطفل للشمس، أو الحرمان من قراءة كتاب أو كتابة أيّ شيء، فحتى الأقلام والأوراق تُمنع عنهم.

تَغيب خصوصيّة الطفل الفلسطيني حين يقرّر الاحتلال اعتقاله ويغيّبه السّجن، وتنام كلّ المؤسسات الدولية التي تُعنى بحقوق الطفل وتَغطّ في نومها، متجاهلة هذه الإبادة لمفهوم "حِماية الطفل" الذي تقوم عليه، بمعاييرها الغربية التي تجيد التصالح مع انتهاكات هذه المفاهيم إذا كانت تستهدف ذوي ألوان بشرة أغمق مما اعتادت أن تَأْلَفه.

وهكذا لم تَعُد الطفولة صِفة تُضفي الحماية على مَن يحملها، بل باتت عبئًا على كاهِل الطفل الفلسطيني الذي يضطر بالرغم من كونه طفلًا، وبكلّ ما يحمله الأمر من تناقض، أن يواجه قَسوة السجن وحده، وربما، ومثلما قال وليد دقة، لا يبقى لهؤلاء الأطفال سوى التخلّص من براءة طفولتهم حتى يواجِهوا هذا الوحش، لأن هذه البراءة لم تَشْفع لهم عندما ابتلَعَهم السجن.

غابَ وليد دقة عن الحياة بعد أن قُتِل ببطء في ظلّ حالة الطوارئ الحالية، وبعد أقل من عام على غيابه، يَغيّب الموت وليدًا آخر في سجن مجدو، هذه المرة وليد صغير، حرمه السجن من أن يبلغ عامه الثامن عشر. غاب وليد الصغير أثناء كتابة هذه السّطور، طفل فلسطيني لم يشكُ من أي مرض، انتُزِع من حضن والديه قبل نصف عام، لم يَرَوه ولم يرَهُم، لم يعرفوا أيّ خَبر عنه سوى من أطفال آخرين سجنوا معه وأفرج عنهم مؤخرًا، ولم يذكروا أيّ سوء بخصوص وضعه الصحي. انتُزع وليد الصغير من حضن والديه إلى الأبد، ولم يكن وليد الوحيد، فقد نال السجن من حياة طفل آخر في ظروف غامضة. ولم ينتَه الأمر هنا، فهناك حالات عدّة رَصَدت وجود أطفال غزيين في قبضة الجيش لا يزال مصيرهم حتى الآن مجهولًا.


[1] قرار 20\8092 بعجاوي وآخرون ضد القائد العسكري

المحامية نادية دقة

محامية متخصصة في مجال حقوق الإنسان

رأيك يهمنا