العصيان المدني المستعصي. لماذا؟

تتكرر المواقف والتصريحات الموجهة إلى لجنة المتابعة العليا التي تنادي بإعلان العصيان المدني وذلك ضمن توجّه تصعيدي للنضال النافذ والفعّال لحماية المجتمع الفلسطيني في الداخل ومواجهة الدولة المتورّطة في منظومة الجريمة عن سابق إصرار وإلزامها بتغيير جذري في سياستها في هذا الصدد والقضاء على الجريمة المنظمة وبنيتها وإعادة الأمان الشخصي والجماعي للناس، وكما فعلت في السابق مع الجريمة المنظمة في البلدات والتجمعات اليهودية. كما وتهدف هذه النداءات إضافةً إلى مواقف جهات قيادية وشعبية المعلنة بأن الدولة بطبيعتها كما كل الدول هي التي تملك القدرة على فرض سطوتها على منظومة الجريمة وتحرير الناس أو المواطنين منها. بهذا المفهوم فإن النداءات المذكورة للدفع نحو العصيان تندرج في إطار الهدف الواحد المجمع عليه.

تأتي نداءات العصيان المدني في مرحلة راهنة من تراجع المدّ الجماهيري الكفاحي الواعي وأحد مسبباته هو سطوة الجريمة ووظيفتها التفكيكية والتفتيتية للمجتمع، وهذا تماما النقيض لأحد الشروط الاساسية لتوفير الظروف المواتية للعصيان المدني. إلا أن التداول بالفكرة يحمل مؤشرات بوجود نوع من القناعات بضرورة تطوير الأدوات الكفاحية، وفيه من الدلالات بشأن المردود الضعيف قياسًا بالمتوخى من الفعاليات الاحتجاجية ببعديها القطري والمحلي. وهي تأتي في ظلّ حكومة تختلف عن سابقتها بعامل مهم وهو أنها حصلت على الغالبية البرلمانية على أساس برنامج مركباتها القائم على الكراهية للعرب الفلسطينيين، وشرعنة الاعتداءات الدموية عليهم والنظر اليهم كأعداء وجبهة حرب في صراع اسرائيلي متعدّد الجبهات، وأنها عدوّ استراتيجي ينبغي استخدام عقيدة الحرب الهجينة القائمة على القضاء على العدو من داخله قبل أن تبدأ الجولة القادمة من المواجهة. وهي حكومة قائمة على هدف سحق قضية فلسطين وعقيدة الحسم، في كل فلسطين. كما انطلقت هذه الأحزاب الحاكمة من مفهوم نزع الشرعية السياسية عن التمثيل السياسي للجماهير العربية لتنتقل إلى نزع شرعية وجود هذا الجزء من الشعب الفلسطيني في وطنه وعلى أرضه. وعليه فمهما بدت منظومة الجريمة ذات سطوة وتهديد وجودي للمجتمع، فإنها تبقى في إطار الوظيفية العينية للدولة في ممارسة سياساتها ونحو تحقيق غاياتها.

لو قارنا بين منظومات الدولة الأمنية لوجدنا أن الشرطة مقارنة بالجيش والشاباك ومصلحة السجون والموساد، هي الإطار الأول الذي جرى تطويعه لصالح نوايا الوزير الفاشي العنصري المسؤول عنها – بن غفير. في المقابل فإن منظومة الإدارة المدنية الاحتلالية في الضفة الغربية وإدارة الاستيطان قد تم وضعها بالكامل تحت مسؤولية الوزير الفاشي العنصري الآخر سموتريتش، لتكون كل المسؤوليات الحكومية عن الفلسطينيين من جانبي ما يسمى "الخط الاخضر" في أيدي حزبي الصهيونية الدينية الفاشيين، وكلا الحزبين معنيّ عن وعي بالقضاء على أية كيانية فلسطينية. 

في أعقاب هبة الكرامة 2021 بادر حزب بن غفير لإنشاء ميليشيات يهودية مسلّحة ضدَ أهالي المدن الساحلية والنقب، لكن اللافت أنه لم يجر تفعيل هذه الميليشيات بشكل واسع، خاصة وأن منظومة الجريمة تفتك بالفلسطينيين أكثر، في حين تبقى المليشيات جاهزة للتحرك حيث يتطلب الواقع العنصري الفاشي.

 معظم التسويغ لفكرة العصيان تأتي من باب تعطيل الحياة في الدولة باستخدام الوزن الشعبي للمجتمع الفلسطيني في الداخل والوزن النوعي لقطاعات أشغال اختصاصية تضاعف الوزن الاحتجاجي العام وتعطيل قدرة الدولة على الاستمرار في سياستها المتورطة في الجريمة.

من الأهمية بمكان تطوير الأساليب النضالية الفلسطينية، خاصة مع تطور مساحات جديدة للاحتجاج والتأثير ومنها فضاءات العالم الافتراضي ووسائل التواصل الاجتماعي التي زادت إمكانيات الترويج والدعاية السياسية بشكل هائل إلا أنها قلّصت مساحات القناعات والتفاعل السياسي بالمفهوم الحزبي والحركي وساهمت في إحداث تحولات عميقة تزامنت مع تراجع أداء الأحزاب والحركات السياسية، وفتحته أكثر بمفهوم الحركات التي تكون في الغالب مؤقتة وتتمحور في مسألة عينية ولا تملك مشروعا سياسيا، وباتت الحاجة ملحّة للنمطين معا وليست المعادلة "إما أو"، ليشكل هذا التكامل بالأدوار دربًا واعدًا لتحقيق الغايات المرجوّة من الفعل الجماهيري. 

تحمل النداءات بإعلان العصيان نوعا من عدم الثقة بأنماط الكفاح التقليدية التاريخية والتي بحد ذاتها أنجزت الكثير، لتشكّل أيضا صوت احتجاج وعصيان على أساليب النضال ووتيرته ومضمونه، أي فيها من البعد الجماهيري الداخلي أكثر من فك العِقد القانوني القسري الذي لم يكن أمام الجماهير العربية الفلسطينية من خيار بقاء في وطنها دون ذلك الشرط، وعليه فإن الحديث هو عن عقد قانوني قسري وليس عقدا اجتماعيا طوعيا. كما وهناك نزعة أخرى في أصوات داعية للعصيان وهي من باب الاحباط الشديد من إمكانيات النضال الاحتجاجي والمظاهرات ومدى جدواه، خاصة وأن النتائج لا يمكن رؤيتها على المدى القصير، في حين أن المؤسسة الحاكمة لا تبدي أي استعداد لأي تحوّل في سياستها التي لا تزال تحمي منظومة الجريمة أكثر من ضحاياها.

في تعريف العصيان المدني

تحمل فكرة العصيان المدني أكثر من تعريف ودلالة في الأدبيات، ويشهد التاريخ كمًّا كبيرا من أنماط العصيان المدني دون تسميتها بهذا الاسم، بل التعريف هو حديث العهد نسبيا ويعود إلى الفكر السياسي الأمريكي المناهض للعبودية، إلى ديفيد ثورو في منتصف القرن التاسع عشر، وساهم العديد من علماء اجتماع في إضافاتٍ مثل يورغن هابرماس وآخرين، وما أجمعت عليه التعريفات المختلفة يدور حول الفعل العام، وعمل سياسي واعٍ واسع النطاق ومنظم، غايته في أغلب الأحوال إحداث تغيير في القانون أو في سياسة الحكومة.

وينطوي العصيان المدني على خرقٍ واعي متعمد للقانون ومستند إلى مفهوم "العقد الاجتماعي" وما يتضمنهُ من مبادئ وقيم أساسية لها الأولوية مقابل الانصياع للقانون. كما أنه أعمال تشتمل في المقام الأول على وسائل للاحتجاج غير عنيفة. العصيان المدني على الصعيد الفردي موقف مبني على قيم رفض الظلم والخضوع للطغيان، وعلى الصعيد الجماعي هو تحرك سياسي يتسم بالوقوف الثابت والمنظم والعلني والمتواصل في وجه كل القوانين والسياسات القهرية للحقوق الأساسية للفرد والمجتمع.

ومن أشهر النماذج كان العصيان المدني في الهند بقيادة المهاتما غاندي ضدّ الاستعمار البريطاني، وفي الولايات المتحدة بقيادة مارتن لوثر كينغ وكذلك مظاهر عصيان ضدّ الحرب الأمريكية في فيتنام.

الموقف من العصيان المدني ليس مبدئيا، لكن السؤال هل هو ممكن؟ لو نظرنا إلى الامتناع عن دفع الضرائب، باعتقادي الأمر غير ممكن بتاتا، والأمر بنيوي فالضرائب تحسم من الأجر الشهري مباشرة من قبل المشغّل، وبالإضافة، لا تستطيع أية هيئة أو أي إطار تحمل مسؤولية ماذا سيحصل لمن يقوم بذلك وتداعيات ذلك قانونيا. إحدى الإشكاليات الجوهرية هي أننا نتعامل مع حقوقنا كفلسطينيين بصفتها حقوق جمعية، في حين تتعاطى الدولة بكل منظوماتها بما فيها القضائية بأنها فردية لا أكثر، والمسؤولية والتبعات القانونية فردية فقط. بينما فكرة اضراب متواصل لقطاعات مهنية مثل الأطباء الفلسطينيين العرب في المرافق الاسرائيلية هي أيضا غير ممكنة ما دامت غير منظمة قطاعيا ومهنيا. وحاليا لا توجد أطر نقابية قطاعية تلائم هذا المطلب.

لكن من الأهمية بمكان باعتقادي التداول في هذه الفكرة، بينما الأطباء بطبيعة المهنة وأخلاقياتها الملزمة لا يستطيعون الامتناع عن تقديم الرعاية للمرضى. بينما هناك إمكانيات بينية وهي ما يطلق عليه "الاضراب الإيطالي" وهو التمارض جماعيا في يوم معين وبالتناوب في كل يوم مجموعة، وهذا ممكن فقط في إطار تنظيمات نقابية أو شبه نقابية غير متوفرة فلا يوجد اتحاد أطباء عرب ولا اتحاد محامين ولا نقابة لسائقي الحافلات أو أية مهنة أخرى باستثناء جمعية أطباء الأسنان العرب شبه النقابية. أستحضر هذه الأمثلة لتبيان إن العصيان إذا كان ممكنا أصلا، فهو بحاجة إلى بنية عصيان وتمرّد، وعلى المستويات القُطرية والقطاعية والمحلية، ولو كانت هناك أية بنية حقيقية لحكم ذاتي أو إدارة ذاتية ممأسسة لأمكن التفكير بالعصيان. 

من الذاكرة التاريخيّة للعصيان

يقع العصيان المدني خارج حدود رد الفعل والاحتجاج المباشر وهو عمل مخطّط للمدى البعيد. النموذج المحلي الأقرب إلى العصيان المدني كان في العام 1976 في يوم الارض، وهو الحدث المفصلي قد يكون الوحيد الذي أقيمت له بنية قامت على الوعي والتنظيم... إضراب جرى التمهيد والتحضير له ما يقارب العام، وأقيمت هيئات لجنة الدفاع عن الأراضي بإطارها القطري وانبثقت عنها اللجان المحلية في كل بلدة، ثمّ العمل النقابي للعمال خاصة عمال البناء والذين شكلوا في حينه القطاع الأوسع الذي مكّن تنظيمه والسعي مسبقا لإقناع الجماهير الواسعة والسعي لتوفير الحماية للمتضررين لاحقا والاقتناع العام بالمخاطرة في هذا الصدد حتى وإن كانت غير مضمونة النتائج لكن مضمونة المساعي وبثقة عالية بالهيئة القيادية، وفعليا تعطلت مرافق عمل كبرى في البلاد. لم يكن الهدف حينها عصيانا متواصلا لكن الإضراب الذي تمحور في التصدي لمصادرة الأراضي والتهويد، قد نجح آنذاك في ايقاف السياسة الرسمية ولو مؤقتا وعزز من القوة النوعية للفلسطينيين في الداخل وأدركت ذلك الدولة.

راهنا هناك القناعة بأنه إذا لم تتيقن الدولة من الوزن الكفاحي الاحتجاجي للجماهير العربية، وبالقدرة على تعطيل الحياة الإسرائيلية فلن تتحرك. وهذا ما تدركه الحركة السياسية ولجنة المتابعة والأطر المجتمعية المختلفة، وكانت مبادرات في إغلاق محاور سير ومواصلات كما حدث في مجد الكروم قبل ثلاثة أعوام وعلى مستوى قطري، وكما كانت المبادرة التي بدأت محلية في الفريديس وأغلقت محاور السير المركزية. وفي هذه الخطوات ومثلها العديد مواصفات جزئية من العصيان المدني والتحول من المظاهرات الاحتجاجية الى مبدأ التعطيل وذلك لمضاعفة الاثر.

فكرة العصيان منوطة بأن نكون أقوى ومنظمين، وليست استعاضة عن الضعف وحالة الوهن السياسي الجماهيري العام. بل من أهم شروطها ومقوماتها هو حالة النهضة الوطنية والوحدوية والثقة بين الجماهير والقيادات، والوعي بأنه ما من طريق للتحرر من منظومة الجريمة ومن جريمة الدولة المتمثلة بسياساتها، سوى مواجهتها حتى إسقاطها. بتقديري إن الظرف الراهن ليس مؤاتيا لفكرة "العصيان المدني" لا من حيث البنية التنظيمية ولا السياسية ولا الاجتماعية المواتية، وقد تكون الأولوية هي أكثر تواضعًا وأكثر أثرًا للمدى البعيد وهي نمط العمل التراكمي المتواصل والمستدام وتوفير بنية تتيح خيارات كفاحية أكثر أثرا مبنية على الكيانية ومبدأ الإدارة المجتمعية والذاتية. 

ليست تسمية الفعل السياسي بالعصيان بالأمر المهم، بل ما تقوم به الجماهير الفلسطينية في الداخل في التصدي المنظم والوحدوي والواعي لمنظومة الجريمة ولارتباطها بسياسات الدولة التي هي عنوان المواجهة. إنها فرصة كي تنطلق مبادرات لتنظيم المجتمع وشرائحه المختلفة على أسس اتحادية ونقابية محلية وقطرية تتيح مستقبلا إعلان العصيان، وابتكار أنماط نضال ملائمة لمستوى التحديات، وفي مقدّمة ذلك إدراك جماهير الشعب بأنها تستعيد الأمل والقدرة على التغيير وتعطيل منظومة القهر.


*المقالات المنشورة تعبّر عن آراء كاتبيها.

أمير مخول

باحث في مركز تقدم للسياسات

رأيك يهمنا