النكبة وجع مُتوارث من جيل إلى آخر

عندما نتحدث عن النكبة والتهجير، ففي جزء منها إستمرارية لما يحدث الآن في قطاع غزة، من تهجير وإخراج قسريّ ودمار شامل لمعالم المكان. النكبة هي وجع مُستمر ومتوارث من جيل إلى آخر، هذا الوجع لم يُعالج ولم يلتأم بعد.!

حياة الناس في فلسطين، عند جزء كبير منهم، توقفت عند مرحلة النكبة، وكذلك من الشعراء والكتاب والفنانين الذين لم تتجاوز إبداعاتهم حدود النكبة، فاحتلت الحيز الأكبر منها.

ذلك ما نراه لدى الكثير منهم في أعمالهم وإبداعاتهم، فمثلاً رسم رسام الكاريكاتير ناجي العليّ (1987-1937) المولود في قرية السجرة المهجرة والمدمرة قضاء طبريا، طفلاً ذا عشرة أعوام، وبقي يرسمه إلى يوم اغتياله. ونرى كذلك أن لدى الفنان البصريّ عبد عابدي(1942-) المولود في مدينة حيفا أعمالاً بصريّة تُعبر عما جرى له ولعائلته في عام النكبة من تهجير وعودة. وهناك كثيرون غيرهما فالنكبة أثرت على مجريّات الحياة إلى يومنا هذا. عندما نتحدث عن استمراريّة النكبة ليس المقصود فقط هنا التهجير والإخراج القسري كما يحدث الآن في قطاع غزة وهدم المباني الفلسطينية والأثريّة التاريخيّة ومحاولة طمس ومحو هويّة المكان هناك، إنما هناك وجه آخر لاستمرارية النكبة هو الوجع المُوّرث أبًا عن جد واستمراريته، الوجع المحمول على أكتاف الأبناء والبنات وفي قلوبهم وذاكرتهم، هذه هي النكبة المستدامة التي ورث آثارها النفسية الصعبة الأبناء والبنات الذين يتألمون ويعيشون تبعات وجع أهاليهم. مثلا عندما  تموت الأمهات يتذكر الأبناء القرى التي هُجرن منها ولم يزرنها حتى مماتها  فحلم عودتها دفن معها، وكذلك عندما يتوفى الآباء ولم يستطع الأبناء القيام بما أوصى به وهو دفنه بقريته التي هُجر منها عام حرب 1947-1948 هذا الوجع والمشاعر المستمرة لا علاج لها هي تُحمل من جيل إلى جيل حتى تُشرق شمس العدالة في أرض فلسطين التاريخيّة.

الوجع المورث نستشعره ونتعرف عليه من خلال رواية علي القاضي من سكان  مدينة حيفا. في عام 1946  وصل علي محمود القاضي (1932) برفقة شقيقه أحمد ذي الأعوام التسعة إلى مدينة حيفا من درعه في سوريا تاركًا أهله لأسباب شخصيّة. وصل مع تُجار من سوريا كانوا ينقلون منتوج قمر الدين إلى فلسطين، وتحديدًا إلى مدينة طبريا. عند احتلال حيفا في شهر نيسان/أبريل عام 1948 كان علي يرعى قطيعًا من البقر في قرية الكبابير في جبل الكرمل -  في فترة الاستعمار البريطاني كانت الكبابير قرية مستقلة ولها مختار. في أعقاب النكبة ضُمت القرية إلى منطقة نفوذ حيفا وأصبحت حيًا تابعًا للمدينة -.كان شقيقه أحمد في حيّ وادي الجمال الواقع على شاطي بحر حيفا. عندما اشتدت المعارك والقتال وبدأ جيش الهاغاناة بإطلاق النار في الكبابير، اختبأ علي داخل برميل وتدحرج من أعالي الجبل إلى الأسفل، وبقي مختبئًا في البرميل قرابة ثلاثة أيام متتاليّة. وبعد توقف إطلاق النار، خرج علي من البرميل وذهب إلى وادي الجمال عند شقيقه أحمد، فكان الحيّ خاليًا من سكانه. وفي تلك الفترة، جُمع السكان العرب الباقون في المدينة في حيّ وادي النسناس. فعلي استمر بالبحث عن شقيقه لكن لم يجده فظن أنه قُتل بالتأكيد.  بعد عدة سنوات من النكبة حاول عليّ العودة إلى بلده سورية، متسللاً، عندما وصل الحدود السورية، احتجزه الجيش السوري ثلاثين يومًا، حتى بعد أن عَرّف عن نفسه بأنه ابن محمود ياسين القاضي من سورية. وشرح للجيش أنه كان في فلسطين، وبعد الحرب أغلقت الطرقات، تحقق الجيش السوري من الأمر من والده لكنهم لم يخبروه أنهم يحتجزون ابنه، فقرر الجيش إعادة عليّ إلى فلسطين ، مدعين أنهم لا يريدون تفريغ فلسطين من العرب، فأعادوه إلى طبريا. حينها أدرك عليّ أن عليه بناء نفسه هُنا في حيفا، تزوج وأسس أسرة، وعمل واجتهد في فلسطين، لكنّ قلبه بقي نابضًا بسورية، متألّما لفراق جميع أفراد عائلته وبقاءه وحيدا هنا. في عام 1966 بعد انتهاء فترة الحكم العسكري على البلاد قدم والد علي محمود القاضي من سورية إلى المسجد الأقصى في مدينة القدس، والده لم يعلم أن علي بقي على قيد الحياة وتزامنت زيارة محمود مع حجاج مسيحيين من حيفا قدموا الى القدس، عندما التقى محمود معهم سأل بصوت مرتفع الناس حولَ ما إذا كان من بينهم أناسٌ من حيفا، فكان هناك رجل حاج من حيفا يدعى (إلياس سبتي) قال: "أنا من حيفا" فقال له محمود : "في عام 1946 أتى اثنان من أولادي إلى فلسطين. أحدهما عاد إلى سورية والآخر بقي في حيفا عندما نشبت الحرب عام 1948، لكن لا أعلم إذا كان على قيد الحياة؟" فردّ عليه إلياس سائلاً: "ما اسم ابنك؟" أجابه: "علي القاضي" فقال له إلياس: "يا رجل أعرفه يطلقون عليه "علي السوري" وهو جاري في حيّ وادي الجمال".

كانت البرقية الأولى التي تصل علي من والده بعد عشرين عاما، وفيها عرف أن شقيقه أحمد ما زال على قيد الحياة واستطاع العودة الى سوريا مع تجار من لبنان.

 في عام 1984 سافر علي من حيفا الى القاهرة/مصر للقاء شقيقه أحمد بعد فراق ستة وثلاثين عاما، وبعد شهر واحد من اللقاء المؤثر جدًا. توفي أحمد بنوبة دماغية في السادسة والأربعين من عمره. فعلي القاضي مرت عليه ظروف عدة قاسية بسبب وجوده وحيدًا في حيفا منقطعا عن عائلته لكنه كان يملك شخصية قومية ذكية ومرحة جعلته يتجاوز الصعوبات، لكن قصصه وأحلامه وحلم عودته لوطنه الأم سوريا وحنينه الدائم لعائلته الأم ورّثه لابنته حياة وأبنائه الستة، جميعهم يشعرون بالوحدة ذاتها يعيشون في وطن وقلبهم يعيش به وطن والدهم سورية. لا عمّات ولا أعمام هذا يجعل الغصة في قلوبهم. الشعور الممزوج بين المدينة التي ولدوا فيها ولكن حنينهم الدائم لبلد والدهم – درعا/ سورية -. ربما سردية من هذا النوع مغايرة لسردية السوري اللاجئ من حيفا  في مخيمات سورية ويشتاق لعودته إلى فلسطين. فللنكبة وسردياتها أوجه عدة.

 

قصة علي القاضي، معالجة، من كتاب حيفا في الذاكرة الشفوية أحياء وبيوت وناس، روضة غنايم، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات قطر ، 2022


الصورة: لعلي القاضي وشقيقه أحمد القاضي في عام 1984. المصدر أرشيف روضة غنايم.

روضة غنايم

من سكّان مدينة حيفا، وهي باحثة في التاريخ الاجتماعي والتاريخ الشفوي، وكاتبة مقالات في عدة منصات. صدر لها كتاب «حيفا في الذاكرة الشفويّة، أحياء وبيوت وناس»، عن «المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات» في عام 2022

شاركونا رأيكن.م