المُستَحيلُ الفِلسطينيّ
بَعد عامٍ على نشوبِها، تَبدو الحرب كأنّها أفقٌ وَحيد لحياةٍ محاصرةٍ بالفقدان والخَسارات والانفجارات، حياةٌ ذابلة ومؤجّلة تماماً تكاد تَفقِدُ، لكثافة الموت وسطوتِهِ، بداهتَها ونضارتَها، وتكاد تُختزل بطقوس انتظار وتدابيرَ أمان وتعليمات دفاع مدنيّ أو جبهة داخلية كما تسمّى في لغةٍ تمتثل لقاموسٍ عسكريّ حتى في وَصف الربيع والحبّ والفرح.
ينجلي مرّةً أخرى، وبأشدّ الطرق فجائعيةً، الخلل المُفزِع في النظام الرّمزي الذي يحكم التعاقد الإنساني بين الغرب وغير-الغرب، ويكرّس "البياض" مرادفًا حصريًّا وفوقيًّا للإنسانيّة والحضارة، وينفي الآخرَ إلى وجودٍ هشّ ومُشيّأ ومشروط بالخضوع والغياب، متكّئاً على تكنولوجيا الموت والخَراب في أعتى صورها، وعلى تدمير الجسد الفردي والجماعيّ، وإلغاء الطفولة والمستقبل.
تؤجّج الحرب المستمرّة على غزّة منذ عام سؤال الوجود الفلسطينيّ بعنفٍ لا يضاهيه عُنف، وبقسوةٍ لا تفوقُها قسوة، وتُراكِم أسئلةً جارحة:
ما الذي فعلته وتفعله هذه الحرب بالفلسطينيّين؟ كيف تغيّر إدراكهم لأنفسهم؟ كيف تؤثّر على تصوّرهم لماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم؟
ليس من السهل التفكير بالذات الفلسطينيّة في وطنِها وفي شَتاتِها والوقت من دمٍ ودمار. لكن ثمةَ إحساسٌ غامض وموحِش بتحوّل حتميّ لا مجال بعد لتقصّي مفاعيله وبصماته. شيء ما مُنكسر ومعطوب في علاقة الفلسطينيّ بالحياة والعالم. ثمّة حالة غامرة من الأسى واليُتم والشكّ والاغتراب الجذريّ تُلقي بظلالها على الكينونة الفلسطينيّة وعلى الجماعة الفلسطينيّة. كأنّها إقامةٌ في "منطقة اللا-وجود" كما يصفها فانون: "منطقة مُجدِبة وقاحلة بشكلٍ غير عاديّ... منحدَر جُرِّد مِن كلّ أساسيٍّ يُمكن أن ينبثق منه تَرحال جديد حقيقيّ". يَعيش الفلسطينيون على مَشارف انهيارٍ عميق للنفس لا يسمح للفقدانات العارمة أن تُعاش أو تُحكى أو تُستَدخَل، ولا لمُستقَبلات مختلفة أن تبزُغ أو أن تُستشرَف، في الوقت الذي تظلّ فيه النّكبة، بميراثها النفسيّ غير الواعي العابر للأجيال، لحظة الفقدان المؤسِّسة والمزلزلة للذات الفلسطينيّة، مفردًا وجمعًا، حضورًا وغيابًا، صدمةً وصمودًا وحصانةً.
بينما تُثابر الذات الفلسطينية في تحقيق ولادة عسيرة من رَحم نَكبة لا تَنتهي بل تحتدم، يُطبقُ المكانُ على الفِلسطينيّ كَفخّ أو جَحيم. المكان الذي ينتمي إليه ويسند روحه إلى أرضه وسمائه. المكان الذي طالما كان البقاءُ فيه أو العودة إليه بوصلتَه في حلّه وتَرحاله، بوصلة تلمّ شمل ذاته المصدومة المشرذمة بفعل التهجير والاستلاب و الاغتراب. من الصعب أو من المستحيل أن تحافظ الذات على تماسكها واتساقها في فضاء ملبّد بالمجهول وبشهوات استعمارية قاتلة.
تأخذ الحرب الحالية مفارقة الهويّة الفلسطينيّة إلى حدودِها المأساويّة القصوى: مِن المستحيل أن تكون فلسطينياً، من المستحيل ألاّ تكون فلسطينياً. الفلسطينيّ هو المستحيل، ليس فقط بمفهوم "الرقم الصعب" في معادلة السلام الإقليمية أو العالميّة أو بالمفهوم الشاعريّ المقاوِم الذي نَحَتَهُ توفيق زياد في قصيدته "هنا باقون": "كـأننا عشرون مستحيل".
المستحيل الفلسطينيّ هو الخيال المعماريّ الذي يتحدّى هندسة الكارثة، والشّوق الإنسانيّ الذي يقترب من الهاوية بحثًا عن ممرّ إلى حياة تشبه الحياة، الشّوق المُنهِك لذاتٍ حرّة من الاحتلال ومن الهيمنة. المستحيل الفلسطينيّ هو تلك الهوّة التي لا بدّ من تجسيرِها وإن تعذّر أو تأخّر بين الاضطهاد والتحرّر، بين "الّلاأنسنة" بكونها ممارسة استعمارية جوهريّة والإنسانيّة باعتبارها مقاومة لكلّ ما ينفيها. هو ذهاب لانهائيّ إلى الحرّية وتشبّثٌ بالمعنى وبالكرامة. المستحيل الفلسطيني هو مشروع حياة إنسانيّة كاملة الأركان، ليس بالمعنى المثاليّ أو الإنشائيّ للتعبير، وإنّما بكلّ ما يعتريه من نقصان وارتباك أمام الحرّية واستحقاقاتها ومسؤولياتها، خارج ثنائية المستعمِر و المستعمَر.
د. مصطفى قصقصي
اختصاصيّ نفسيّ عياديّ ومعالج نفسيّ ومؤسِّس مشارِك و رئيس سابق لرابطة السّيكولوجيّين العرب