الملاحقة في ظِلّ المَجزَرة!

العام 2024، كان عام المَجزرة الأطول والأبشع التي لا تشبه شيئًا مَن كلّ ما عرفناه أو حتى سمِعنا عنه في العقود الأخيرة. لهذه المَجزرة أوجهٌ عدّة، أوضحها وأبشعها هو ما نَشهده بالبثّ المباشر من حرق الأطفالِ في خيام النازحين في غزة، التجويع والتعطيش والتهجير أمام أعين العالم المُندهش من القدرة الإسرائيلية الفائقة على تطوير الأسلحة الذكيّة واستخدامها وبناء كلّ هذه المخازن من المعلومات البيومترية عن سكان القطاع المنكوب بدءًا مِن بصمة الإصبع، مرورًا بالبصمة البصريّة ووصولًا إلى عدد السعرات الحرارية المطلوبة يوميًا لكل واحد وواحدة في القطاع.

تحت ظِلّ هذه المجزرة تتم إعادة هندسة الضفة الغربية بشكل يَمنع أيّ أفق لإقامة الدولة الفلسطينية، بعد تهجير مناطق واسعة وتسريع الاستيطان بشَكل مَهول فيها، وهنا في الداخل أيضًا هنالك محاولة لإعادة هندسة الوعي، وترسيم الخطوط الحمراء التي على كلّ فلسطيني أن يفكّر ألف مرة قبل أن يَجرؤ على تجاوزها، والخط الأحمر الأوضح: الحراك السياسي!

 هكذا يجب أن نَنظر إلى الملاحقة السلطوية المتواصلة ضدّنا وعدم الاكتفاء بالتوصيف السَطحي: "شرطة بن غفير انجنت"!

لا، هذا ليس مِن أصناف الجنون التي تستدعي الاستخفاف (بكرا بتسقط الحكومة) بها أو مجرد تحاشيها (خلص، إمشِ الحيط الحيط)، إنه جنون مع سبق الإصرار والترصد وقد يصل كلّ واحد فينا!

هذه الملاحقة السياسية التي تعرّض لها الألوف من المواطنين العرب- سواء من خلال الاعتقال أو التحقيق أو مجرّد التشهير بهم ولو مِن قبل زملائهم في العمل أو على مقاعد الدراسة لمجرد منشور أو تعبير عن الشعور- هي واحدة من ملامح النظام الفاشي الذي بات يَظهر بكامل هيئته، إذ إن الانزلاق نَحو الفاشيّة في العام الأخير كان بسرعة تُعادل الزّحف الذي استمر سنوات طوال.

هذه الهجمة التي تطال مجتمعنا بأكمله لها 3 أذرع: أولًا، المؤسسة الرسمية. ثانيًا، عصابات الإجرام. وثالثًا، الكتائب الفاشيّة المسلحة.

عندما نتحدث عن المؤسسة الرسميّة فإننا نفكر أولًا بالشرطة، لكن لا يجب أن نُغفل أن الشرطة ليست إلّا ذراعًا تنفيذيّة لسياسات ترسمها الحكومة والجهات السياسية ذات الصلة، وهذه الجهات فَتَحَت في العام الأخير جبهة ضد المواطنين العرب وأشلاء الديمقراطية من خلال صَليات من اقتراحات القوانين الفاشية التي تستهدف كلّ ما هو عربي في البلاد، وتجري المصادقة عليها بخفّة لا تُحتمل!

كما أن المؤسسة الرسميّة باتت تتمثل -ولسخرية القدر- بالجهات التي كان من المفترض أن تكون درعًا لأعضائها أمام بَطش السلطة، كنقابات الطلاب والعمال التي تُجنَّد بكامل قوّتها ضد الكثير من أعضائها العرب في العام الأخير.

أما عصابات الإجرام التي سَجّلت في هذا العام حصادًا غير مسبوق  مما جَنَته من أرواح وأرباح، فما كانت لتصل إلى ما وصلت إليه من عربدة وحضور لولا تقاسُم المهام المفضوح بينها وبين المؤسسة لملاحقتنا وتخويفنا وإشغالنا بأمننا الشخصي وجعلنا نفقد ثقتنا بابن بلدتنا وجارنا نحو تفكك اجتماعي مدمّر.لربما بات هو السبب المركزي لانتشار ظاهرة لم نعرفها من قبل بالحجم الذي باتت عليه، ألا وهي ظاهرة الهجرة - وبالأخص ممن يسمحون لأنفسهم بالقيام بتلك الخطوة من شرائح متوسطة فأعلى.

أما الكتائب الفاشيّة المسلحة التي تنشط بكل قوّة في مستوطنات الضفة الغربية وباتت تنتشر في المدن الفلسطينية التاريخية من خلال ما يُسمى بالنوى الاستيطانية، فقد خَبرنا بعض خطورتها في هبّة الكرامة، أيار 2021، وتمكّنت في العام الأخير من توسيع صفوفها وذخائرها، وهي على أهبّة الاستعداد لارتكاب الفظائع بحقّ المواطنين العرب لمجرد تواجد الحُجّة أو اختلاقها في الوقت الذي يناسبها هي وَسادَتها في المكاتب الحكومية. علمًا أن أي دراسة تحليلية لنشوء هذه العصابات الفاشية تؤكد أنها قد تتفشّى سريعًا بعد خيبة الأمل مِن النصر المطلق على العدو الخارجيّ - وفي هذه الحالة غياب صورة للنصر المطلق على قطاع غزة.

هذه الملاحقات تَطال في ما تطال، الأحزاب السياسية والنشطاء السياسيين، ولم تَنج في العام الأخير أيّ جهة سياسية فاعلة على مستوى الجمهور العربي من الملاحقة، إلا أن متابَعة موضوعية تشير بلا شك إلى أن الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة كانت الأوفر نصيبًا من هذه الملاحقة، ولربما هذا يعود إلى دورها المهم في التصدي للحرب، إذ إنها كانت أوّل من نظّم اجتماعًا سياسيًا ضد الحرب في سخنين في 19.10، ثم التمكّن من تنظيم أول مظاهرة في البلاد ضد الحرب في 18.11 في تل أبيب، وفقط بعد التوجه إلى المحكمة العليا، وتمكّنت من المساهمة بتأسيس "شراكة السلام" التي تقود حراكًا عربيًا يهوديًا شجاعًا ضد الحرب.

خلال العام الأخير، تعرّض عشرات النشطاء الجبهويين لما تعرّض له أبناء شعبهم من الملاحقات والتحقيقات والاعتقالات، كما أن ممثليها في الكنيست والنقابات والسلطات المحليّة تعرضوا لتحريض منهجي، وارتكبت السلطة ثلاث خطوات بمنتهى الخطورة بحقّ حركة سياسيّة رسمية: محاولة منع عقد المجلس القطري للجبهة في كانون الأول من العام المنصرم، ثم اقتحام نادي الحزب الشيوعي وجبهة الناصرة في نيسان 2024، واستصدار قرار غير مسبوق منذ زوال الحكم العسكري بإغلاق ناد للجبهة في حيفا لمنع عرض فيلم "جِنين جِنين" لمحمد بكري.

يضاف إلى ذلك التضييق على لجنة المتابعة واعتقال أعضاء سكرتيريّتها حتى قبل وصولهم إلى تظاهرة تعمّدت اللجنة ألا يتجاوز عدد المشاركين فيها الخمسين مشاركًا، إلى جانب منع عقد حتى اجتماع عربي يهودي.

في العام الأخير، نُشِرت العديد من المقالات والمواد الدّاعية إلى إخراج الجبهة خارج القانون أو الشرعية على الأقل، وهذا بتقديرنا ليس من باب الصدفة، فضَرب الجبهة يضرب عُصفورَين بِحَجَر واحد: أولًا، ضرب النضال العربي-اليهودي المشترك وما يمثّله من حَجَر عَقَبة أمام سياسة الفصل العنصري، وثانيًا، ضرب تيار مركزي في قيادة الجماهير العربية بشكل قد يعني بالضرورة إسقاط الشرعية عن حركات أخرى تمثل الصوت الوطني غير المهادن للجماهير العربية، مثل التجمع الوطني الديمقراطي أو الحركة العربية للتغيير، بعد إخراج الحركة الإسلامية بقيادة الشيخ رائد صلاح عن القانون، ما فتح الطريق الواسع لخطاب المُهادنة بغطاء ديني.

هذا كلّه يتطلّب حوارًا جديًا ودراسة تتنادى إليها كافة القوى المُخْلصة في مجتمعنا وهو ما أخذت لجنة المتابعة العليا مسؤوليتها عنه مؤخرًا بمبادرة نوعية مهمّة لننطلق منها ببرامج واستراتيجيات تنقلنا إلى موقع المبادرة لا ردّة الفعل.

وإلى ذلك الحين، علينا التمسّك بكلمة "خشّب" وهي كلمة السرّ التي كان يقولها محامي الأرض، حنا نقارة للمعتقلين، لحثهم على الحفاظ على رباطة جأشهم والتماسك أمام البطش بكلّ أشكاله.


الصورة: لاورن زيف وموقع "سيحا ميكوميت".

أمجد شبيطة

سكرتير الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة وأحد القائمين على حملة "فكر بغزة".

رأيك يهمنا