المكان والهويّة وأَدبُ الأَطفال

 زارتني يومًا صديقة من بريطانيا في أحد فصول الرّبيع الذي يلوّن الجليل بأبهى الألوان، فاصطحبتها إلى جولة في ربوع الوطن وتوقّفنا في إحدى زواياه التي جذَبَتنا بجمالها، وما إن ترجّلنا مِن السّيارة حتّى وجدنا أنفسنا وَسَط أنقاض قرية عربيّة، فهذه ممرّاتها، وهذه ساحة الدار والبئر تتوسّطها، وهذه أحجار البيوت الباقية المتبقية تتناثر هنا وهناك، لكنْ ليتَها قادرة على أن تحكي قِصّتها؛ فالقصّة تحتاج لكي تُسرد إلى أحجارٍ حيّة.

استطاعت صديقتي أن تَستَشعر نكبَتنا عن قُرب عندما شاركتها بما حَدَث هناك، وأنّ مصير هذه القرية شَبيه بـمصير 540 قريةً وخربةً كانت قبل النّكبة ولم تَعُد. وعلى الرغم من ذلك، لم أستطع إخفاء دموعي التي بدأت تُذرف هناك، ليسَ على نكبتنا، بل على ذاكرتنا، ذاكرتي، إذ لم أَعرِف اسم القرية التي جلستُ في حُضنها، فالمنطقة كانت جديدة بالنّسبة لي. أنا المهتمّة بما حَدَث، أنا التي قرَأَت عن نكبتنا وتابَعَت وكَتَبت. حاولتُ تعزية نفسي بأنّه لا يوجد شخص منّا يستطيع التجوّل في فلسطين مِن شمالها إلى وسطها فجنوبها ذاكرًا أسماء وأماكن الـ 540 قرية وخربة ومدينة التي هُدمت وهُجّر أهلُها؟ حتّى خارطة فلسطين قبل النكبة لم تكن لتسعفني وحتّى لو كان التّطبيق INAKBA بين يديّ حينها (تطبيق دليل للقرى المهجرة قبل الـ48 واليوم) لم يَكُن ليهديني لاسم القرية!

أنا التي وُلِدتُ هنا في الناصرة، وتثقّفت سياسيًّا ووطنيًّا على أيدي توفيق زياد، وإميل حبيبي، ومنصور كردوش، وسميح القاسم، وحارسِ الذّاكرة سلمان ناطور، وقرأتُ "كي لا ننسى" للخالدي وكتبًا كثيرة أخرى، لكن هذا كلّه لم يشفع لي في تلك اللحظة التي كنت فيها بحاجة لمعرفة اسم هذه القرية التي أُخْفِيَت معالمها.  فكيف سنصون الذاكرة أو نزرعها لدى الأجيال في الوطن والشتات؟ كيف لنا أن نُعيد رسم معالم الوطن بشكل مُحَتْلَن يرصد الواقع الحالي وليس فقط ما كان؟ ومنذ هذه الحادثة أحمل معي هذه الأسئلة وأمشي.

كثيرًا ما نستشهد بما قاله "بن غوريون" مهندس نكبتنا بأنّ: "الكبارَ يموتون والصغار يَنسون" لنعيد ونؤكد أنّنا لَن ننسى وأنّ أطفالنا يرضعون حبّ الوطن، وهذا صحيح في الكثير من الأحيان، لكن في أحيان كثيرة أخرى، وجدنا أنّ الأهل لا يملكون الرّواية كاملة، فهي ما سَرَده لهم أهاليهم- إذا سَرَدوا- أو ما اجتهدوا بأنفسهم في جَمعه. لا يتسنى للعديد من أطفالنا وأجيال ما بعد النّكبة في فلسطين والشّتات حتّى زيارة الوطن والتّجوّل بين قراه المخبّأة بين أشجار السّرو التي زرعتها "دائرة أراضي إسرائيل" لتمحو جرائم الـ 48. فأصبح حُرش صفورية يغطّي قرية صفورية، وحرش لوبية يغطّي أنقاض لوبية، وأم الزينات أصبحت متنزّهًا، والقصص كثيرة.       

على الرّغم مِن هذه المحاولات، فما زال الخطر يهدّد الذّاكرة، إذ تبقى هذه التّجارب غير متاحة للجميع! كما أن غالبية أولادنا وبناتنا لا تزال تخضع لسياسة التّدجين والتّجهيل التي تتّبعها حكومة إسرائيل في المدارس العربيّة الخاضعة لسلطتها، والتي لم ترتَقِ مناهجها لتحاكي تاريخنا وتحدّيات العصر.

وعلى الرّغم من أنّنا نعلّم الأجيال القادمة بأنّه حيث تجدون الصَّبر، الزّيتون والرّمان والتّين فهذه مؤشرات لوجود قرية هُجّر أهلها وهُدمت بيوتها، وهذا صحيح في غالبية الحالات، لكن هذا لا يقول شيئًا عن اسمها وعن أهلها، فكيف لنا أن نصون الذّاكرة ونجعلُها متاحة لأطفالنا؟ كيف لنا أن نجذّرها في ذاكرة الأجيال القادمة؟ هل يكفي ما قامت به المؤسّسات والأفراد من توثيقات ومجهودات؟ كيف نَستحضر ذاكرة جيل النكبة الذي يرحل يومًا بعد يوم آخذًا حكايته معه دون أن تُدوّن للأجيال القادمة؟ كيف نَجعلها محتلنة ومحدّثة وجذّابة لأطفالنا؟ كيف لنا أن نقاوم تهويد المكان والجغرافية وتغييب الذّاكرة ومحوها حتى؟ كيف لنا أن نجعلها جزءًا من حياة أطفالنا اليوميّة؟ كيف لنا أن نعزز القيم التي كانت تميّزنا كشعب؟

هذا هي الأسئلة التي دارت في رأسي سنواتٍ عديدة، إلى أن جاء ذاك اليوم الذي كنت فيه في جولة عائلية مع أطفال العائلة، وكعادتي عندما أَمُرّ بجانب مكانٍ أذكرُ اسمه الفلسطيني: هذه صفورية، وهذه لوبيا، وهكذا. كُنّا يومها نسافر باتجاه رأس الناقورة، وعندما مرَرنا بجانب شاطئ البحر قلت: هذا شط البصّة، فسأل "جود" ابن الرابعة حينها: "شو يعني؟"، فقلت: "شو رأيك نحكي قصّة عنه"، فتشجع هو وأخواته، وهكذا وُلدت أول قصة "صياد البصة".

مَن شجّعني على الاستمرار كان جود وأخواته عندما شاركوني، فجود حكى القصّة لجدّه وهو بالصدفة من البصة، وطلبوا أن أكتبها، وهكذا بدأت رحلتي مع سلسلة قصص "قُرانا الباقية فينا"، ومع ولادة "جانر" جديد في أدب الأطفال الفلسطيني.

تَفتقر المكتبة العربية لقصص أطفال نوعية تجري أحداثها في فلسطين، وشخصياتها وجغرافيتها فلسطينية، على الرغم من أن أدب الأطفال هو مُركّب مهم جدًا من المركبات الثقافية، فالكتاب الجذّاب بحبكته ورسوماته يصبح رفيقًا للطفل، ينام معه، ويرجع له كلّما وجد وقتًا لذلك. تعيد القصص قرانا ومُدننا التي هُدمت وهُجرت أو شوّهت ذاكرتها إلى الذاكرة. فهي تستحضر الغائبين والغائبات من شخصيات فلسطينية عاشت بيننا مثل محمود درويش وناجي العلي وميّ زيادة وغيرهم، وتستحضر المكان مِن قرى فلسطينية لتبقى فينا وفي ذاكرة أطفالنا. وتستحضر الحياة التي كانت هُنا قَبل التغييب والتهجير وإغلاق أفق التواصل مع عُمقنا العربي، في سياق قصّة جذابة للطفل مما يضمن انجذابه ومُتعته.

فالقصص مَدخل لتعزيز هويتنا وكياننا، خاصة إذا فَتَحت حوارًا في العائلة، فالقصّة ومضامينها تقرّب الطفل من ذاته ومن تاريخه بشكل محسوس جذاب يدمج بين الواقع والخيال، فالقصص فيها من الخيال، لكن مسمياتها ومواقعها وتضاريسها حقيقية، وهي مكتوبة باللغة المحكيّة الفلسطينية "اللغة الوطنية"، تبدأ القصص جميعها

بـ:

"كان يا مكان

في قديم الزمان

ومش من زمان كثير

 قبل الـ 48"

كان يا مكان وليس كان يا ما كان للدلالة على أن القصة تتناول مكانًا حقيقيًا، وقد كتبنا للتعريف عن القصص "القصّة خيال بخيال ما عدا حقيقة وجود قرية ____ كقرية فلسطينية مُهّجَّرة".

"تقدّم السلسلة كتبًا جميلة وجذّابة تجري أحداثها في قرى كانت وهُجِّرت، أو تجري أحداثها مع شخصيّات كانت تَلعب هناك...".

فالبصّة تقع على البحر، لذا كتبنا قصّة أسميناها "صيّاد البصّة"،

والبروة قرية شاعرنا محمود درويش، لذا كتبنا القصّة وأسميناها "شاعر البروة"،

والسجرة هي قرية ناجي العلي، لذا اسمينا القصّة "رسام الشجرة"،

والأديبة مي زيادة وُلدت في الناصرة وعاشت فيها قبل النكبة، لذا كتبنا قصّة أسميناها "فراشة الناصرة".

واليوم نضيف إلى السلسلة كتابين:

"سرّ صفّورية" لكي تبقى صفّورية في قلوب ناسها، ونغرس القيم السائدة هناك.

"شفا معلول" المميّزة بعاداتها وتآلف أهاليها لتُضاف إلى السلسلة. والرحلة مستمرة ......

ومِن ردود الفعل التي تلقّيناها أن القصة كانت:

 فاتحة لحوار حول 48 وما حدث،

محفّز لزيارة القرية مع الأطفال وسَرد القصة في القرية المهجّرة نفسها، 

محفّز لتنظيم لقاءات مع أشخاص يحملون الذاكرة الحية،

 محفّز لمشروع بحثي للتعرف على شاعر فلسطين، شاعر البروة مع طلاب الصف التاسع،

مشروع شمولي في الروضة لمدة نصف سنة،

أصبحت أسماء القرى مِن ضمن مفردات الأطفال،

أظهرت التجربة أن القصص نجحَت في سدّ نقص في المكتبة العربية الفلسطينية.

يمكنكم مراجعة القصص في صفحة "سلسلة قرانا الباقية فينا   children’s stories في "الفيسبوك".

نبيلة إسبنيولي

أخصائية نفسية ومديرة مركز الطفولة مؤسسة حضانات الناصرة

رأيك يهمنا