الشَّباب الفِلِسطيني أَمام مُهمّة تاريخيّة لاستِعادَة دَوْرِه

في ظلّ المَجازر المتواصلة بحقّ شعبنا في غزّة، وَسَط الكارثة الإنسانية المستمرّة والتجويع والإبادة الممنهَجة، يقف الشعب الفلسطيني مجددًا أمام امتحان وجودي. في قَلب هذا الامتحان، تَطفو مسألة الشّباب الفلسطيني على السّطح، لا كقضيّة ثانويّة أو مؤجَّلة بل كجوهر الحاضر والمستقبل، ومُفتاح للخروج من حالة العَجز والتراجع التي أَصابت المشروع الوطني الفلسطيني في العقد الأخير.
يَسأَل كثيرون بالذات في ظلّ ما يَعيشه شَعبنا مِن وَيلات وإِبادة مستمرّة، وَهَجمة تزداد وطأتها يومًا بعد يوم، سواء التّجويع والإبادة المُمَنهَجَة في غزة، والتّضييق والاعتداءات المستمرّة من المُستوطِنين على بَلدات وأهالي القرى والمُدن الفلسطينيّة في الضفة الغربية، والهَجمة الشّرسة على الدّاخل وقياداته السياسيّة وسِياسة الملاحَقَة والتّرعيب والتّخويف تجاه المجتمع العربي الفلسطيني داخل إسرائيل: أين الشباب، وما هو دَورهم، وهل هم غائِبون أم مغيَّبون؟
عندما نقول الشباب نَعني الجيل الجديد، في مقتبل عمره، سواء أكان التلاميذ في المدراس أم الطلبة في الجامعات أم أصحاب الوظائف والمهن في المؤسسات المختلفة، الذين يشكّلون إلى حدّ كبير زُبدة مجتمعنا الاجتماعية والاقتصادية والعلميّة، وتَعرّضوا منذ بداية الحرب إلى استهداف واضح مِن المؤسسة الإسرائيلية مِن خلال تحريض واسع على أطبائنا وعمالنا وموظفينا في مختلف التخصّصات والمواقع، بالإضافة إلى اعتقالات واسعة منذ بداية حرب الإبادة طالت الشباب والطلاب بشكل خاص لكسر شوكَتِهم ودبّ حالة الرعب والخَوف بينهم.
على هذا الجيل مُلقاة مسؤولية كبيرة، بالإضافة إلى نجاحه العلميّ والعملي والشخصي فإن مسؤولية مستقبل مجتمعنا وشعبنا مَرهونة به إلى حدّ كبير، وهو ما يحتاج إلى تهيئته وتثقيفه ليَلعَب دورًا في استنهاض الحالة الصّعبة التي يَعيشها شعبنا، وَرَفض حالة اليأس والإحباط التي تسود في أيامنا وبيننا للأسف.
لكنّ الحقيقة المُؤلِمة التي لا يُمكن القَفز عَنها، هي أنّ الشّباب الفلسطيني -وخصوصًا في الداخل- لم يُمنح المَوقع الذي يستحقه في هذه المرحلة المصيرية، كما أنه هو-كجيل شاب- لم يَفرض نفسه كمبادر ولاعب مركزيّ في المشهد السياسي والاجتماعي. كما لم يُبذل ما يَكفي من جُهد لتنظيمه وتأطيره وتثقيفه، وإشراكه في اتخاذ القرار والمبادرة، بل تُرك إلى حدّ كبير فريسةً للتهميش والضياع وفقدان المعنى.
نحن لا نتحدّث عن جيل بلا طاقات، بل عن جيل يتّقد وَعيًا وغضبًا ورَغبة في الفعل. لكن هذا الغضب حين لا يُنظَّم يتحوّل إلى عزلة، أو إحباط، أو إلى أشكال من التّعبير قد تكون فرديّة ومتخبّطة أو حتى مدمّرة للذات. فالشباب الذين يَشهدون ما يَحدث في غزّة مِن قتل وتجويع، ويتابِعون عن كثب ملاحقة القيادات السياسيّة والطلاب في الداخل، ويعيشون يوميًّا استهداف الهوية والانتماء، يَشعرون بغياب الحاضنة، وبأنهم يُتركون وحدهم في مواجهة حَرب مركّبة على الوعي والانتماء.
يعيش الدّاخل الفلسطيني تحديدًا حالةً متراكِمة مِن شِبه قطيعة بين جيل الشباب ومراكز الفِعل السياسي والتنظيمي. الأحزاب التي لعبت دورًا تاريخيًا في تثقيف الشباب وتنشئة أجيال قياديّة واعية لهويتها واعدة ومنتمية لمجتمعها وشعبها تراجعت بمعظمها عن دورها المهم في تَأطير الشّباب واحتضان طاقاتهم. العمل التثقيفي الذي كان يومًا عماد التربية الوطنية، في تراجع جدي لأسباب ذاتيّة وخارجية، وهو ما أدّى بشكل أو بآخر لتوسُّع مَشاريع الأَسرلة والتفكّك والانجرار إلى العنف والجريمة. لا يمكن فصل تفشّي الجريمة المنظَّمة، وتراجع الشّعور بالانتماء الوطني وتضعضع الهويّة الجماعية، عن هذا الغياب الكبير للعمل البنيويّ مع الشباب.
سيكون الشّاب الذي لا يَعرف تاريخه، ولا ينتمي إلى قضيّته ومجتمعه، ولا يُشارك في صياغة مستقبله، أوّل من تَلتهمه مَشاريع السُلطة أو تَسرقه فكرة الهجرة أو يلجأ للعنف والجريمة المنظمة. لهذا فإنّ التربية على الهوية الوطنية والمعرفة والانتماء، ليست ترفًا نظريًا أو نشاطًا هامشيًا، بل هي شَرط البقاء والصّمود ودِرع الحماية أَمام كلّ أَدَوات التّفكيك التي تُمارسها الدولة الإسرائيلية بحقّ مجتمعنا.
لعلّ ما يَجعل هذه المهمّة أكثر إلحاحًا اليوم هو أن هذا الجيل ليس جيلًا هشًّا أو فارغًا، بل هو جيل ذكي وواسع الاطلاع، يرفض الوصاية والخِطاب القديم، ويتوق إلى الانخراط في مشروع وطنيّ ومجتمعيّ يراه صادقًا وشجاعًا، وقادرًا على مخاطَبة همومه بلغته. هو جيل يَبحث عن مَعنى وأدوات صحيحة وفعل حقيقيّ على الأرض.
لا يَكفي أَن ننتقد الشّباب على “اللامبالاة” أو “الانسحاب”، بل يجب أن نسأل بصدق وبنظرة نقدية تجاه أنفسنا: ماذا قدَّمنا لهم؟ كيف أَنصَتنا لهم؟ كم مرّة فَتَحنا لهم المجال للمبادرة، والقيادة، والمساءَلة؟ الشّباب لا يَحتاج إلى من يلقّنه، بل إلى من يُرافقه، ويثق به، ويَمنحه المساحة لبناء عالمه، بلُغة زمنه وأدواته، دون أن يُطلب منه فقط أن يردّد ما قيل قبل عشرات السنين.
في كلّ مرّة يتعرّض فيها شعبنا لمصيبة أو ظُروف صعبة كالتي نَعيشها اليوم، يَعود الحديث عن "دور الشّباب ومسؤوليتهم". لكن هذا الحديث ينتهي غالبًا عند الشّعارات والدّور الشّكلي، أما الدور الحقيقيّ فهو الذي يُبنى بالتّنظيم والتأطير والتثقيف، وبِمَنح هذا الجيل المَوقع الذي يستحقّه في صُلب المَشروع الوطنيّ لا في هامشه.
ما نَحتاجه اليوم ليس فقط تعبئة ظرفيّة، بل مَشروعًا طويل الأَمَد، يُعيد الاعتبار إلى العمل الشّعبي والسياسي والثقافي مَع الشباب، ويُعيد ربطهم بالحلم الفلسطيني، لا عَبْر النّدب واليأس والإحباط الذي يكاد يكون في هذه الأيام أخطر من الأسرلة نفسها، فَعِندما يُمسي شبابنا محبَطين دون أمل بالمستقبل فهذا يؤدّي بنا إلى التّهلكة.
بالإضافة لكلّ ذلك، أعتقد أن الدّور المفتَرَض منحُه للشباب بإمكان الشباب أنفسهم انتزاعه، وعليهم مسؤولية كبيرة في أخذ دَورهم وانتزاعه إذا لَزِم الأمر، والتّعامل مَع الواقع الحالي بمسؤولية عالية، وأَخْذ مواقعهم القياديّة بدل انتظار الفرصة لتأتيهم، والتّعامل مَع أنفسهم كقيادة مجتمعيّة لا كَتَبَع، فالواقع الكارثيّ الذي نعيشه لا يَنتَظر أحدًا، ولا رفاهيّة لنا للوقوف جانبًا وانتظار تغيير الحال إلى حال أفضل.
الشّباب الفِلسطيني اليوم هو جِسر العُبور إلى المستقبل؛ إمّا أن نَحمله ونَمشي عليه معًا، أو نَتركه- أو يَترك نَفسه يَنهار تَحت ثِقَل التّهميش والخُذلان، ويَغرق في دوامة اليأس والإحباط. وما لا نَفعله ويفعله هذا الجيل اليوم، سَيَدفع ونَدفَع ثمن غيابه غدًا.