"فريري" في القِطار إلى تَل أَبيب

قطار السابعة صباحًا إلى تل أبيب جنودٌ، جنودٌ، جنود.
لم أَخَف هذه المرّة منهم، بل خِفتُ من أن تَشي بي حقيبتي وتسلّمني لخوفهم وبنادقهم.
حقيبة الحاسوب فاضحةٌ ووَشّاية، فعَلَيها طُبعت كلماتٌ عربية. شعرتُ بأن ظهري مغناطيسٌ جاذب لنظراتهم. أنا لم أرَ سواهم، وعلى ما يبدو هم لم يَروا سواي.
أُهَرْولُ نحو الجدار الحديدي السمج، وأتّكئ عليه وأخفي حقيبتي خلفي، قاطعًا المشهدَ وأفكاري، وأغوصُ في هاتفي وأكتب مقدّمتي هذه.
نجمة داوود ورجلٌ يبدو شرقيًّا يحملها على سلسلةٍ تدلّت وترنّحت بين شعر صدره المكشوف. "لو سمحت"، قلتُها له قبل أن يضمّ قدميه السميكتين ويُفسح لي مجال الجلوس في هذا القطار المكتظّ بالتوتر. يبدو أنه وعائلته في طريقهم إلى المطار، وتأكّد لي ذلك بعد أن بَدَت زوجته، التي تجلس مقابله، متوترةً و"مضغوطة".
وها هي تَطلب من أطفالهم المنتشرين حولنا أن يهدؤوا وأن يجلسوا وألّا يتحرّكوا، تَرمُقهم بنظراتٍ قلقةٍ ممزوجةٍ بعصبيّة عربيّة، وإن كانت عبرية. تمامًا كما أتوتّر وأُوتّر أطفالي في طريقي إلى المطار، فيه ومنه. كما أنهم كانوا يحملون أمتعةً كبيرةً نسبيًّا.
يَبدأ المَشهد بالرّكود، وأبدأ في التفكير: لماذا؟ وكيف؟ ومتى أُخرِجُ هذا الشيء من حقيبتي أمام العلن؟ وهل سحبُه بسلاسة أمام هذا المشهد والتوتّر المتراكِم من الجنود والقطارات والمطارات سيكون سلسًا؟
في نهاية هذا الأسبوع، أنهيتُ دورةً تأهيليةً لتوجيه مجموعات الصراع، عربًا ويهودًا، وقد سعدتُ بإهدائي كتاب "التربية للمقهورين" للفيلسوف العظيم باولو فريري. رتّبتُ وقت بداية قراءته في القطار في طريقي إلى العمل، وها أنا أحاول سحبه من حقيبتي في قطارٍ مكتظٍّ بالقلق والتوتّر والهويّات والحرب والجنود، أو ربما هو الاكتظاظ في عقلي أنا فقط. أو أنّه يبدو لي أن زوجتي، في الواقع، مُحِقّةٌ في تنبيهي من شُرود الذهن والتفكير الفائض في قضايا السّاعة والسياسة والفلسفة دون مُحفّزاتٍ بصريّة، كتلك التي أمامي الآن!
باتَ لي، بعد أن استجمعتُ ما أملكُ من شجاعةٍ وتَبَصُّرٍ وحكمة، أن قراءةَ كتابٍ باللغة العربية في زمن كهذا، وبلد كهذا وقطارٍ قلقٍ كهذا هو فعلٌ ثوريٌّ يستوجب الشجاعة ورباطة الجأش والتصميم. وقد بقي لي أن أدعوَ الله بإعماء ذلك الشرقيّ الجالس إلى جانبي أو أن يكون جاهلًا بالعربية وبفريري. وحمدتُ اللهَ على أن تلك المجنَّدة الغضّة الممشوقة الجالسة في مواجهتي لم تكن من الوحدات الاستخبارية والمخابرات التي تقرأ العربية وتفهمها وتكتبها كما العبرية. وحسَدتُ نفسي لأنّ الشرطيّ الذي مرّ أكثر من مرةٍ يبدو أمّيًّا حتى بلغته.
افتح الكتاب بحذر وترقُّب، وأبدأ في ممارسة رياضة القياس والتّأويل والمقارَبة مع الواقع والتناص وأُبحر في ملخص إجابة فريري عن السؤال عن كيفية التّعامل مع اعتناق أبناء المجموعة المستضعَفَة ثقافة المجموعة المسيطِرة؟ فيجيب فريري:
الصراع بين المسيطِر والمسيطَر عليه هو صراع حضاري وطبقي تهدف فيه الطبقة المسيطرة إلى تجريد الضعفاء من مواردهم وقمع وعيهم ومصادرة ثقافتهم الشاملة.
تحاول الطبقة المسيطرة إقناع الضعفاء بتدنّي ثقافتهم وفرض ثقافتها الخاصّة عليهم، مما يجرّد المهمشين من إنسانيتهم وحقّهم في التعبير.
عندما يُدرِك المستضعفون زيف ادعاءات تفوّق المسيطِرين الثقافي، يبدأون برفض هذه الصورة المشوَّهة عن حضارتهم.
يمرّ الصراع بمرحلة تَحوّل تدريجي قد تَزيد فيها قمعيّة المسيطِر، لكنها تؤدي في النهاية إلى يقظة المستضعَفين واكتشافهم قوَّتَهم الثقافية والأصيلة.
- يناضل المستضعَفون لاستعادة ثقافتهم وهويتهم، مستخدمين أدوات علميّة واستراتيجيات كانت تُستعمل ضدّهم، لكنّ هذه المرة لأجل التحرّر والكرامة الإنسانية.
أُنهي القراءة لاقتراب وصولنا إلى محطتي، وأرفع رأسي ببطئ نحو مَن بقي في المقطورة من جنود وناس، وأدسّ على مهل كتابي العربيّ في حقيبتي العربية.
وقد تراءى لي فريري مشوهًا ومتقطعًا عبر انعكاس زجاج المقطورة ناظرًا إليّ من فوق عدسات نظاراته السميكة وقد سمعت وصيته بوضوح:
"المهمة الأولى والأساسية للمضَّطَهد هي السعي نحو تحرير نفسه فقط، ثم ينطلق".