القطاع المصرفي اللبناني بعد النكبة

 مرت أكثر من أربع سنوات على انطلاق الهبة الشعبية في لبنان، خريف 2019، على إثر الأزمة النقدية والاقتصادية التي عصفت بالبلاد وتسببت بسقوط القطاع المالي والمصرفي، الذي يعد من أهم ركائز الاقتصاد اللبناني. أدت الأزمة الى انهيار سعر صرف الليرة، وسط عدم قدرة البنوك على رد الودائع الدولارية للمودعين، في ظل نقص العملات الصعبة، وانخفاض الاحتياطي منها الى مستويات قياسية.

وهذه الأزمة التي تتصاعد وتيرتها مع الإجراءات المالية التي اتخذتها المصارف من قيود على سحب الودائع والتحويلات الواردة والصادرة، كانت ذيولها أكثر قسوة على اللاجئين الفلسطينيين، وهم الفئة الأكثر فقرا، ويعانون من التهميش في جميع المستويات. ارتفعت معدلات البطالة في المخيمات مما يقرب من 50% إلى حوالي 90%، وسط تجاهل رسمي، وتقهقر دور "الأونروا"، وتراجع خدماتها مع انحسار التمويل الدولي لها في ظل ما يحكى عن محاولة تدعيم فرص إنجاح "صفقة القرن" الأمريكية. ويفتقد اللاجئون في مخيماتهم إلى أبسط مقومات الحياة الإنسانية منذ لجوئهم، وذلك بفعل عوامل سياسية وأمنية واقتصادية.  فالقانون اللبناني يمنع اللاجئ الفلسطيني من العمل في أكثر من 70 مهنة، كالطب والصيدلة، والهندسة، والمحاماة، وغيرها. وتنص التعديلات على قانون العمل عام 1962 على مبدأ "المعاملة بالمثل" كأحد الشروط للحصول على تصريح عمل للأجانب، بحيث أنه يحق للأجنبي استصدار تصريح عمل لمزاولة مهنة معينة شرط أن توفر دولته نفس الإمكانية لمواطني لبنان، دون مراعاة كون الفلسطيني بدون دولة. هذا بالإضافة لمجموع شروط أخرى تستثني الفلسطيني من إمكانية الحصول على تصريح، كما يحرم القانون القلة من الفلسطينيين العاملين بموجب عقود رسمية من الاستفادة من تقديمات الضمان الاجتماعي، باستثناء صندوق نهاية الخدمة، رغم كونهم ملزمين بدفع اشتراكات جميع فروع الضمان الاجتماعي.

للأزمة الاقتصادية والمالية في لبنان جذور تاريخية ممتدة، أفضت إلى تراكم سوء الإدارة والفساد، ورواج التسيّب تحت غطاء سياسي تولت أمره عائلات نافذة تُسيطر على مفاصل البلد وقطاعاته الاقتصادية والتجارية، وربط هذه الحقيقة مع التضييق الاقتصادي على الفلسطينيين، تعيدنا الى أكبر قضية مالية مصرفية في تاريخ لبنان، المرتبطة ببنك انترا لصاحبه الفلسطيني يوسف بيدس.

تعليقا على الانهيار الاقتصادي، ومعه القطاع المصرفي، وتحت عنوان: "انتقام يوسف بيدس"، كتب إلياس خوري في صحيفة القدس العربي 29 حزيران 2023: “الطغمة السياسية اللبنانية التي لم يكن بمقدورها تحمل وجود مصرف لبناني بحجم انترا، له امتدادات في العالم بأسره، انقضت على البنك بهدف الانتقام بفجاجة ودونية من يوسف بيدس، المقدسي الذي لجأ إلى بيروت بعد النكبة، وأسس أهم مصرف في تاريخ لبنان".

وُلد يوسف بيدس عام 1912 في القدس ابناً للأديب والمربي خليل بيدس، وهو كاتب وأديب ومترجم فلسطيني، يعتبر من رواد الترجمة من الروسية إلى العربية، ترجم أعمال تولستوي وبوشكين. عمل يوسف لفترة في مصر في بنك باركلس و البنك العربي، هاجر مع عائلته إلى لبنان بعد احتلال فلسطين عام 1948، أسس في بيروت مكتب صيرفة، ونجح بالسيطرة على جزء كبير، يقدر بـ 60% من السوق المالي في لبنان. بعد احتلال مدينة حيفا استقطب رؤوس الأموال الفلسطينية منها ليُؤسس عام 1951 بنك أنترا. عام 1956 وإبان العدوان الثلاثي على مصر استقطب جزءًا من رؤوس الأموال المصرية الكبرى، ليصبح بنك "انترا" أكبر بنك في لبنان على الإطلاق.  بدأ يوسف بالانتشار عالميًا كمصرفي من الطراز الرفيع، حاملا لقب "المقدسي العبقري"، مشكلًا إمبراطورية مالية تضم حوالى 40 فرعًا في لبنان، وعدد من الدول، منها سوريا، والأردن، والعراق، وقطر، وسيراليون، وفرنسا، وألمانيا، وإيطاليا، وبريطانيا والولايات المتحدة والبرازيل، وتم تأسيس مصارف شقيقة لانترا ضَمت 33 فرعا و4 مصارف في لبنان و48 شركة، مثل شركة طيران الشرق الأوسط، كازينو لبنان، فندق فينيسيا، استوديو بعلبك، راديو أوريان، شركة مرفأ بيروت، شركة تلفزيون لبنان، وأسس شركة إنتاج كبرى أراد من خلالها جعل لبنان "هوليود الشرق". بالإضافة الى شركات عالمية مثل أحواض بناء السفن في فرنسا، وعقارات في باريس ونيويورك، وغيرها... تجاوزت موازنة مجموعة انترا في تلك الفترة خمسة أضعاف موازنة الدولة اللبنانية، وكانت تشغل ثلاثين ألف عامل، أي أكثر من موظفي القطاع العام آنذاك.

ضاقت المنظومة اللبنانية ذرعًا بهذا الفلسطيني الثري، وفي العام 1966، ساهمت السلطات اللبنانية في هندسة انهيار إنترا. ففي أوائل شهر تشرين الأول انتشرت تسريبات مفادها بأن بنك إنترا متعثّر، وبحسب النائب والوزير السابق، نجيب علم الدين، أول رئيس لمجلس إدارة «شركة طيران الشرق الأوسط» بعدما اشتراها بنك إنترا وحولها إلى أهم شركة طيران في العالم العربي، صدرت في بادئ الأمر هذه الشائعات عن القصر الجمهوري ومكتب رئاسة الحكومة، ثمّ عن مؤسسات مالية منافسة لإنترا. وتسبّب ذلك بتهافت الناس لسحب أموالهم من البنك، وكان على مصرف لبنان أن يتدخّل، بيد أنه لم يحرّك ساكنًا. ومع أنه أنقذ مصارف لبنانية أخرى تعثّرت نتيجة الأزمة، رفض أن يمدّ حبل نجاة إلى بنك إنترا.

ويضيف علم الدين: "أنا متأكد من أن سقوط بنك إنترا كان بداية انهيار لبنان ونظامه السياسي. لقد حكمت لبنان حكومات فاسدة بدون أخلاق أصابت لبنان بداءٍ قاتل منذ الاستقلال. وأخيراً رمت البلاد في أتون حرب أهلية عام 1975، أدت إلى خسارة وجودها كدولة مستقلة".

ويذكر علم الدين في سيرته الذاتية، أن نائب حاكم مصرف لبنان آنذاك جو أورغورليان انتقد بيدس والأصول الضخمة التي راكمها في اجتماع في واشنطن قائلًا: "لماذا فعلت كل هذا؟ من طلب منك ذلك؟ أنت لست لبنانيًا ولبنان لا يريدك أن تتحكم باقتصاده".

الباحث والأكاديمي كمال ديب تعمق، في كتابه "يوسف بيدس ـــ إمبراطورية إنترا وحيتان المال في لبنان" (دار النهار، 2014)، في تحليل أسباب أزمة "إنترا". فيقول: "إلى جانب العنصرية اللبنانية ضد رأس المال الفلسطيني وضد الأدمغة الفلسطينية وتكتل الأعداء في لبنان من سياسيين ومصرفيين ورجال أعمال وعائلات ضد بيدس وإمبراطورتيه، فقد حَاربت الرأسمالية العالمية الازدهار المالي والمصرفي في لبنان الستينات والذي قاده بيدس."

ألقى بيدس المسؤولية الأساسية في سقوط "انترا" على كل من رئيس الجمهورية شارل الحلو، رئيس الحكومة عبدالله اليافي، الرئيس صائب سلام، بيار إده وجوزف اغورليان. وصرح أمام محكمة برازيلية عام 1967: "كلما كبرنا، كثر عدد أعدائنا في لبنان، مائة عائلة تعتبر نفسها مالكة هذا البلد الصغير. يحاربون بعضهم بعضًا، لكنهم يتحدون ضد الدخلاء."

يعتبر يوسف بيدس  مؤسس الاقتصاد اللبناني الحديث، لكنه لم يكن الفلسطيني الوحيد الذي ترك بصمته على القطاع المصرفي اللبناني، فمن بين رؤوس الأموال والأصول التي حملها الفلسطينيون الى الدول العربية إثر النكبة، وصل لبنان نحو 15 مليون جنيه إسترليني، تعادل قيمتها اليوم حوالي 15 مليار دولار امريكي، استثمر معظمها رجال أعمال فلسطينيون في خلق وتطوير بعض القطاعات الهامة في لبنان، منها: القطاع المصرفي، السياحة، التأمين، الهندسة، البناء، الصناعة والمحاسبة.

وكان الاستثمار الفلسطيني في القطاع المصرفيّ عاملًا حاسما في تطور الاقتصاد اللبناني. من أهم الاستثمارات في هذا القطاع نذكر "البنك العربي" وكان قد تأسس في فلسطين على يد عبد الحميد شومان عام 1930. احتل البنك العربي صدارة المصارف اللبنانية لعدة سنوات، وقام باستثمارات كبيرة في الاقتصاد اللبناني، بالإضافة الى دوره الريادي في تأهيل كبار الخبراء اللبنانيين في القطاع المصرفي.

في بيروت أقام أيضا الفلسطيني رفعت النمر "بنك بيروت" الذي اعتُبر من أهم المصارف اللبنانية، وانتشرت فروعه في مختلف المناطق اللبنانية. بلغت قيمة الإيداعات والموجودات في المصرف عام 1994 400 مليار ليرة لبنانية كانت من أسباب صمود الاقتصاد اللبناني سنوات الحرب.

وإن تحدثنا عن صمود الاقتصاد اللبناني زمن الحرب الأهلية، لا بد من ذكر أن حماية مصرف لبنان تولتها منظمة التحرير الفلسطينية، حيث يقع مبنى المصرف بما يحتويه من احتياطي كبير من الذهب، مدخل شارع الحمراء، في منطقة نفوذ الفصائل الفلسطينية، وقد سعت مختلف المليشيات اللبنانية للوصول إلى هذا الاحتياطي، إلا أن حراسة المصرف، التي أوكلها ياسر عرفات لفرقة من مقاتلي "فتح" حالت دونها ودون انهيار العملة اللبنانية.

تضيق المساحة هنا أمام الوقوف على عمق التأثير الفلسطيني في الاقتصاد اللبناني وصناعة عصره الذهبي، ناهيك عن المساهمات الفلسطينية في مجمل الحياة اللبنانية الثقافية والفنية. لكن كان من المهم الإشارة ولو باقتضاب إلى الدور الفلسطيني في القطاع المصرفي اللبناني، اليوم بالتحديد، بعد أن أعاد الانهيار الاقتصادي والمصرفي اللبناني الذي بدأ خريف عام 2019، أعاد الى ذاكرة اللبنانيين والفلسطينيين قصة التآمر على بنك انترا من قبل الطبقة الحاكمة في لبنان التي لم يردعها، حينها واليوم من الدوس على مصالح الشعب اللبناني ونهب مقدرات الدولة اللبنانية. وإن كانت حينها قد استعملت فزاعة توطين اللاجئين الفلسطينيين، فها هي اليوم ترفع فزاعة اللجوء السوري، لتغطي على فسادها ونظامها للمحاصصة الطائفية، وعلى نهبها مقدرات الشعب اللبناني.


الصورة المرفقة للمقال: من موقع العربي القديم.

وباقي الصور استخدمت بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال ملاحظات ل [email protected].

نبيل دوحة

دارس لتاريخ النكبة

رأيك يهمنا