الحرب تُذَكّر وتَكشِف: تَبِعات خَطِرة للتّمييز المُمَنهج في مَجالي السَكَن والحِماية
في ظلّ الوضع القائم واستمرار الحرب، وتفاقم أضرارها، يَنتظر المواطنون من مؤسسات الدّولة أن تأخذ دورها الفعّال لتلبية احتياجاتهم، وتَسهيل حياتهم، وأن تضع في سلّم أولويّاتها ضمان الأمن والأمان لهم، وتأمين الاستقرار في المجتمع بشكل عام، إلّا أن الواقع الذي يعيشه المواطن العربي الفلسطيني داخل إسرائيل منذ بداية الحرب بعيدٌ كلّ البُعد عن هذا المشهد.
وفقًا لمعطيات مراقب الدولة لعام 2018، يفتقر 46% من السكان في البلدات العربية للملاجئ والمساحات الآمنة، مقارنة بـ 26% فقط من السكّان في عموم البلاد. الأكثر إثارة للقلق هو أنّ 11 بلدة عربيّة فقط من أصل 71 تتوفّر فيها ملاجئ عامّة. وعلى الرغم من أن مؤسسات التخطيط بادرت في بداية الحرب إلى إقرار تسهيلات لصالح عمليّة بناء الملاجئ والمناطق المحميّة، فإنّ هذا القرار- وبسبب شروطه ومعاييره غير الملائمة للوضعية التخطيطية الخاصة للبلدات العربيّة-استثنى البيوت غير المرخّصة من جملة التسهيلات المعروضة، وبذلك يكون قد استثنى جزءًا كبيرًا من البيوت في البلدات العربية، بُنِيت اضطرارًا بدون تراخيصِ بِناء بسبب السياسات الحكومية.
وعوضًا عن توفير الحلول لزيادة الحماية في البلدات العربيّة، وتوفير الأمان للسكّان، تستغلّ هذه الحكومة الفاشيّة الفرصة لشدّ الخناق على المواطن العربيّ من خلال تعميق سياسة الهدم في بلداتنا، وبشكل خاصّ في النقب. حتى قبل الحرب الحاليّة، يُشير تقرير سلطة إنفاذ القانون لعام 2023، إلى أن معظم المخالفات، أوامر الهدم وعمليات الهدم الفعليّ تتركّز في البلدات العربيّة، وذلك بما لا يتلاءم والمعطيات التي تشير إلى أنّ البناء غير المرخّص ومخالفات البناء ليست حكرًا على المجتمع الفلسطينيّ في البلاد، بل إنها تتجاوز كلّ القطاعات والمناطق في إسرائيل!
واستمرارًا للسياسات التمييزية في مجال التخطيط والبناء، أقرّت الحكومة في شهر نيسان الماضي نقل مسؤوليّة وحدة إنفاذ القانون في مجال البناء من وزارة المالية إلى وزارة "الأمن القوميّ"، برئاسة الوزير العنصري إيتمار بن غفير، وتوسيع صلاحيّاته في إصدار أوامر هَدم إداريّة دون الحاجة إلى العودة للمحاكم، وذلك على الرغم من معارضة معظم الجهات المهنيّة في دوائر التخطيط لهذه الخطوة، ممّا يؤكد انعدام المبرّرات المهنيّة لهذا القرار واستناده فقط لسياسات عنصريّة تستهدف المجتمع العربيّ .
تعكس صورة الوضع القائم حقيقة السياسات التمييزيّة طويلة الأمد ضدّ المجتمع العربيّ في قضايا الأرض والمَسْكن، التي أدّت إلى انعدام التخطيط الملائم في كل مراحله: من التخطيط الشموليّ مرورًا بالتخطيط التفصيليّ، حتى خرائط التوحيد والتقسيم، والمرحلة الأخيرة - التنظيم واستصدار تراخيص البناء،
تواجه البلدات العربيّة في كلّ واحدة من هذه المراحل، عوائق وتحدّيات تمنع السكّان من إتمام سيرورات التخطيط والوصول إلى إمكانيّات البناء الفعليّ على الأرض.
مثال على ذلك: في دراسة شاملة لجمعية سيكوي-أفق، والمركز العربيّ للتخطيط البديل أجريت عام 2021، تبين أنّ عمليّة المصادقة على المخطّطات التفصيليّة في البلدات العربيّة (المرحلة الثانية بعد التخطيط الشمولي وقبل مرحلة استصدار تراخيص البناء) تستغرق في المتوسّط 8 سنوات، مقارنة بسنتين ونصف سنة فقط في البلدات اليهوديّة. هذا ووَجَدت الدّراسة أنّ %87 من المباني غير المرخّصة في منطقتي المركز (منطقة المثلّث) والشمال ووادي عارة، واقعة ضمن الخرائط الهيكليّة للبلدات العربيّة - أي داخل مناطق معدّة للسكن حيث يجوز رسميًا استصدار رخصة بناء - إلا أن المعوقات تكمن في تقصير الدولة في استكمال الإجراءات التخطيطيّة الضروريّة في تلك المناطق.
وإذا تمعنّا في المرحلة النهائية في السيرورة التخطيطيّة، وهي مرحلة التنظيم - أو استصدار التراخيص، يظهر في بحث جديد لسيكوي-أفق، حجم الأزمة، ويبيّن نقصًا بـ 77 ألف وحدة سكنيّة في البلدات العربيّة بين السنوات 2006- 2022، ومن المتوقّع أن يزداد هذا النقص بـ 11 ألف وحدة سكنيّة إضافيّة في السنتيّن الأخيرتيّن 2023-2024! كذلك، يواجه المواطن العربي العديد من المعيقات في مراحل التنظيم والترخيص، من أبرزها الضَرائب الباهظة، فقد تَصل تكاليف الضرائب والرسوم لبناء بيت بمساحة 120 مترًا مربعًّا إلى 50 ألف شيكل، ويجب أن يُدفع هذا المبلغ نقدًا وبدون تقسيط!
أيضًا في مجال القروض السكنيّة وتمويل البناء، تشير الإحصائيات، إلى أن 2% فقط من مجمل الحاصلين على قروض الإسكان في البلاد هم من العرب، ممّا يشير إلى وجود عقبات خاصة تواجه المواطن العربي في هذا المجال وتمنعه من إتمام عملية البناء. كلّ ذلك إلى جانب البيروقراطية المعقّدة وفترات الانتظار الطويلة، التي تدفع المجتمع العربيّ إلى الاختيار بين السيّء والأسوأ: إمّا الانتظار سنوات بدون أفق للتخطيط أو البناء، أو البناء بدون ترخيص والعيش تحت شبح الهدم المستمرّ!
بالرغم من الاستثمار الحكوميّ الجزئي في السنوات الأخيرة في سَيرورات التخطيط في البلدات العربية، والتغيير البطىء جدًا في السياسات في هذا السياق (على الأقلّ حتى فترة ما قبل الحرب)، فإن الفجوات بين البلدات العربية واليهودية لا تزال كبيرة: على سبيل المثال، خلال الفترة الواقعة بين السنوات 2012-2022 مُنحت بلديّة أمّ الفحم فقط 927 ترخيصًا لوحدات سكن، بينما مُنحت مدينة العفولة اليهوديّة، ذات الحجم السكانيّ المماثل، ترخيصًا لـ 6374 وحدة سكن. يعكس هذا التفاوت الصارخ عمق التمييز في سياسات التخطيط والبناء، فقد وفّرت الدولة للبلدات اليهوديّة: منحًا وتسهيلات للمقاولين، زيادة في المسطحات، تخصيص أراضي دولة بأسعار مخفضة! أي؛ بإمكان الدولة إيجاد الحلول اللازمة عندما تريد ذلك!
التمييز الممنهج في سياسات التخطيط والبناء، والتّباطُؤ المتعمّد في إصدار التراخيص، وغياب الحلول الجذريّة لأزمة السَكَن، وغياب الفرص الاقتصادية المرتبطة بقطاع البناء والإسكان، لا تؤثّر فقط على أزمة السكّن في البلدات العربيّة وعلى توفير الحماية في فترات الطوارئ، بل تتخطّى ذلك لتؤثّر على إمكانية التطوّر العمراني في البلدات العربيّة بشكل عام، على إمكانية الحدّ من ظاهرة الجريمة والعنف التي تَفتك بمجتمعنا وتتغذّى إلى حدّ كبير من معيقات التخطيط، والاكتظاظ السكاني والمعيقات التخطيطيّة المختلفة.
وجدي خلايلة
مركز مشروع الإسكان في قسم السياسات المتساوية في جمعية سيكوي- أفق يحمل شهادة هندسي في التصميم المعماري وهندسي بناء من التخنيون، ومفتش بناء مُجاز من RICS البريطانية. قبل انضمامه الى سيكوي، قام خلال 12 سنة بوظائف مختلفة في المركز العربي للتخطيط البديل. وعمل أيضًا في مكاتب هندسة معمارية ورافق قسم الهندسة في مجلس مجد الكروم المحلي عام 2014.